الشارع المغاربي: أسرّت لي إحدى الزميلات الصحفيّات مؤخّرا أنّها لم تعد تُدلي ببطاقتها الصحفيّة حين يستوقفها شرطي مرور لأنّ صفتها تلك باتت مصدرًا للإيذاء بل وللانتقام!… هل بعد هذا التوصيف البسيط من دليلٍ أوضح على ما باتت تُكابده الصحافة والصحفيّين اليوم من تهديدات؟ وهل للإضراب العام للإعلام العمومي المزمع شنّه يوم 2 أفريل المقبل من معنى سوى أنّ حريّة الإعلام في خطر؟!
أعلنت النقابة الوطنية للصحفيّين التونسيّين، الأسبوع الماضي، عن شنّ إضراب عام وطني حضوري بكافّة المؤسّسات الإعلاميّة العموميّة كامل يوم 2 أفريل المقبل. ويهدف هذا التصعيد المهني بالأساس إلى وضع حدّ لمحاولات تحويل وجهة المرفق العمومي للإعلام نحو “إعلام حكومي” من خلال من تتعرّض له المؤسّسات الإعلاميّة العموميّة من ممارسات التدجين والتهميش. ولا أدلّ على ذلك من تنصّل السلطة من الالتزام بتفعيل المقتضيات الدنيا التي يكفلها لها القانون، وذلك عبر إبقاء معظم تلك المؤسّسات على امتداد أشهر طويلة إلى حدّ الآن من دون رؤساء مديرين عامّين. وهو ما لا يعني فقط أنّ الإعلام لا يزال في آخر اهتمامات أعلى هرم السلطة، بل ويفيد أيضا أنّها ترى نفسها أكثر استفادة من تأبيد حالة الفراغ على رأس المؤسّسات الإعلاميّة الكبرى في البلاد.
سياسة منهجيّة
اتّضح أطراف المعركة إذن، ويبدو أنّ من نجاحات الرئيس قيس سعيّد أنّه قد كشف مدى معاداته للصحافة والصحفيّين الذين عبّدوا له الطريق خلال سنوات ما بعد الثورة كي يعرفه التونسيّون. فقد بات رئيس الجمهوريّة لا يتردّد في ضرب مصداقيّة وسائل الإعلام واتّهامها بالتحريض وتزييف الحقائق، على غرار ما جاء في كلمته بمناسبة زيارته لمفترق بن دحّة بالعاصمة الأسبوع الماضي بقوله إنّه “عكس ما تُروّج له وسائل الإعلام، هناك في بعض الأحيان فرحة من قبل المواطنين في عملية قطع الماء لأنّهم يعرفون أنّ الأمر يتعلّق بمصلحتهم”. ولا يقف نهج المعاداة هذا عند الخطاب الرسمي، بل يمتدّ بالخصوص إلى الأفعال. فهل يُعقل في بلد يحترم نفسه ومؤسّساته أن تجعل مؤسّسة رئاسة الجمهوريّة صفحتها في شبكة “فيسبوك” المصدر الوحيد والأوحد للمعلومة الذي ينقل عنه الجميع قرارات رئيس الدولة التي يراها الأنسب لشعبه الطيّع؟!. فمن المعلوم أنّ سعيّد لم يعقد إلى حدّ اليوم أيّ مؤتمر صحفي. كما أنّه أوصد الأبواب أمام الإعلام الوطني، فلم يجر أيّ حوار باستثناء لقاء يتيم مع التلفزة الوطنيّة قبل أشهر طويلة. ومنذ استقالة مستشارته الإعلاميّة رشيدة النيفر أبى أن يعيّن بديلا لها. والأمر سيّان بالنسبة إلى رئيسة الحكومة نجلاء بودن التي لم تتوجّه ولو بخطاب واحد إلى التونسيّين، في ظلّ رفض تعيين مستشار إعلامي أو ناطق رسمي باسم الحكومة أو رئاسة الجمهوريّة…
نائبة رئيس النقابة الوطنيّة للصحفيّين التونسيّين أميرة محمد اختزلت هذا المشهد بقولها: “استنكرنا وندّدنا واتّصلنا وحاورنا، دون نتيجة تُذكر. اليوم نطلق صيحة فزع: حريّة الإعلام في تونس في خطر، ولكن أعلنها صراحة أنّنا كما تصدّينا طيلة عشر سنوات لكلّ تلك المحاولات سنتصدّى أيضا لرئيس الجمهوريّة. سنواصل معركتنا بنفس القوّة والثبات وسنتصدّى لأيّ سلطة لا تحترم حقّنا في الوجود وفي الحريّة والاستقلاليّة، والمعركة انطلقت فعلا والبداية ستكون بتحرير التلفزة التونسيّة وستشمل كلّ قطاع الإعلام”…
انطلقت المعركة إذن من رحم التلفزة التونسيّة وقناتها الوطنيّة، باعتبار أنّ التلفزيون كثيرا ما يكون الابن المدّلل للسلطة. وكما كانت مهجة المسؤولين السابقين للمؤسّسة، قبل 25 جويلية 2021، تميل إلى الماسكين بزمام أمور الدولة مع إضفاء بعض توابل ديكور الإعلام التعدّدي، فإنّها تكاد تصبح اليوم لسان حال الحاكم الأوحد. ومن ثمّة انكمش دور القناة الوطنيّة الأولى وتخلّت عن مسؤوليّتها المركزيّة في إثراء النقاش العام حين سدّت كلّ المنافذ أمام الأصوات الناقدة للنهج السياسي الغامض الذي ما انفكّ رئيس البلاد يسير على دأبه. وبذلك أصبحت شريكا في تغييب الفعل السياسي وسيفا لضرب التعدّديّة ومبدأ التوازن والنزاهة، وكأنّها ترجمت الأقوال المتكرّرة للرئيس سعيّد قبل انفراده بالحكم حول وجود رئيس واحد للبلاد بأنّه يجب أن يكون هناك صوت واحد يُزمجر في تلفزة دافعي الضرائب بلا شريك ودون صدى في هذه الربوع.
أزمة عميقة
كان الزجّ مؤخّرا بالمراسل الصحفي خليفة القاسمي في غرف الإيقاف، على معنى قانون مكافحة الإرهاب، جرّاء تمسّكه بمقتضيات القانون في عدم الكشف عن مصدره الإخباري بمثابة “القشّة التي قسمت ظهر البعير”. فأطلقت نقابة الصحفيّين إنذار الخطر الوشيك بأنّ استهداف الصحفيّين وتشديد ممارسات “الهرسلة” حيالهم وفرض شتّى الضغوط عليهم قد بات نهجا قويما متصاعدا لإخضاعهم وتطويعهم. وفي المقابل، شكّل الإفراج عن الصحفي الموقوف بذرة أمل في صمود القطاع الإعلامي وتمسّك الصحفيّين بالدفاع عن ضوابط مهنتهم وأخلاقيّاتها.
وعلى الرغم من أهميّة مدّ المقاومة السائدة لسياسة تدجين الإعلام التونسي، على غرار آليّة الإضراب العام وما سيليه من تحرّكات متوقّعة، فإنّ الضغوط والإكراهات لن تتوقّف بسهولة اليوم، مثلما جرى على امتداد السنوات العشر الماضية. ودليل ذلك أنّ مجرّد إعداد ريبورتاج عن ارتفاع الأسعار قد يؤدّي بصاحبه اليوم إلى الإيقاف، بل حدث ذلك فعلا، فما بالك بأعمال صحفيّة أخرى تتطرّق مثلا إلى القمع الأمني والفساد السياسي أو القضائي وما إلى ذلك…
ولا ينبغي هنا أن ننسى سريعا أنّ البلاد شهدت الإضراب العام الأوّل في تاريخ الصحافة التونسيّة ( يوم 17 أكتوبر 2012) زمن حكم الترويكا بقيادة حركة النهضة التي أطلق أنصارها أمام عتبة التلفزة التونسيّة نفسها مصطلح “إعلام العار”. وهي العبارة القبيحة التي تدفع اليوم البلاد بأسرها ثمنها المرتفع عبر ضرب الثقة في الإعلام العمومي وفسح المجال أمام ما ينتجه إعلام الفرجة السائد في الإعلام الخاص من تفاهة ورداءة…
ومع ذلك لا يخفى أنّ أزمة القطاع الإعلامي في تونس أكثر عمقا من مجرّد الحوادث العابرة أو الظرفيّة، في ظلّ غياب أدنى رؤيّة للدولة وللأحزاب والنخب السياسيّة عن أهميّة مسار الانتقال الإعلامي الذي فشل فشلا ذريعا أسوةً بفشل الانتقال الديمقراطي. فلا ريب في أنّ الارتباط وثيق جدّا بين كلا هذين المسارين المتوازيين، إذ بسقوط أحدهما يصعب ألّا يتأرجح الثاني نحو الهوّة العميقة ذاتها.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 29 مارس 2022