الشارع المغاربي : في الوقت الذي طغت فيه أجواء الانتخابات البلدية على الساحة السياسية والإعلامية يواصل الدينار التونسي انهياره مقابل الأورو والدولار الأمريكي بدون أي ردة فعل جدية وحازمة من طرف الحكومة حيث تخطت العملة الأوروبية الحاجز الرمزي لثلاثة دنانير مقابل الأورو الواحد. لمعرفة مدى خطورة هذا الانهيار يجب التذكير أن سعر الدينار تم تحديده رسميا ب1,19 دينار للأورو الواحد عند انطلاق العملة المشتركة الأوروبية. مما يعني أن الدينار التونسي فقد أكثر من ثلثي قيمته بين سنة 2001 وسنة 2018.
لطالما أكدنا في عديد المناسبات أن الدفع نحو انهيار الدينار التونسي هو قرار غير سيادي وغير مناسب لطبيعة الأزمة الحالية علاوة على أنه مضر بالمصالح العليا للبلاد وبالأمن الاقتصادي الوطني. كيف ذلك؟
اثر التوقيع على اتفاق الشراكة بين تونس والاتحاد الأوروبي في سنة 1995، أكد عدة خبراء أنه انهيار قيمة الدينار التونسي سوف يكون السيناريو الأكثر كارثية الذي يمكن أن يحصل للاقتصاد التونسي وقد كانوا محقين في ذلك.
لتفهم هذا التخوف المشروع لابد من التذكير بأن مبادلاتنا وارداتنا تمثل 56 بالمائة من مبادلاتنا التجارية مع الاتحاد الاوروبي من بينها 65 بالمائة يتم توريدها تحت النظام العام (أي تحت النظام الداخلي Onshore) وتُسدّد قيمتها بالعملة الأجنبية. كما تُمثّل صادراتنا 75 بالمائة من المبادلات غير أن 68 بالمائة منها تتم تحت نظام الشركات غير المقيمة والمصدرة كليا Offshore والمُرخص لها بمقتضى قانون الصرف للبنك المركزي بعدم إرجاع مداخيل صادراته إلى الوطن التونسي. بعبارة أوضح تورد تونس من الاتحاد الأوروبي بالعملة الأجنبية أما التصدير فلا يعود إلى البلاد التونسية لذلك يصبح نزيف العملة الأجنبية أي بالأورو في اتجاه واحد لصالح الاتحاد الأوروبي وإذا انهار الدينار التونسي وهو واقع الحال فيُصبح مكلفا جدا على البلاد التونسية علاوة على انه سيُصبح مصدر تضخم خارجي خطير.
هذا السيناريو الكارثي الذي ألم بالبلاد نتج عنه عجز تجاري هيكلي وعميق ارتفع إلى مستوى 25,2 مليار دينار حسب نتائج المبادلات التجارية الصادرة عن المعهد الوطني للإحصاء لسنة 2017 مقابل 12,8 مليار دينار في سنة 2010 و7,5 مليار دينار في سنة 2006.
وإذا أضفنا لذلك المعطيات الخاصة بالمديونية الخارجية للبلاد والمتكونة بنسبة 60 بالمائة تقريبا بالأورو وبنسبة 30 بالمائة بالدولار الأمريكي (حيث فقد الدينار التونسي 50 بالمائة من قيمته) و10 بالمائة باليان الياباني يبدو جليا أن التخوف الذي عبر عنه العديد من الخبراء كان في محله.
انهيار قيمة الدينار التونسي كانت له تداعيات مباشرة على نسبة التضخم (التضخم المستورد)، وعلى تآكل القدرة الشرائية، وعلى تعميق العجز التجاري وكذلك أدى إلى انهيار الاستثمار الداخلي نظرا لكلفته الباهظة بالدينار التونسي المتدهور وكذلك بالطبع إلى تنامي قيمة المديونية الخارجية.
على مستوى المديونية، قيمة خدمة الدين السنوية (المتكونة من القسط السنوي لأصل الدين مع قيمة الفوائض السنوية) تضاعفت أحيانا من سنة إلى أخرى نتيجة فارق الصرف فقط مقارنة بالأورو وبالدولار الأمريكي. هذا ما تبينه التقارير السنوية للبنك المركزي التونسي المتعلقة بالمديونية الخارجية للبلاد. من ذلك مثلا فإن فارق الصرف الناتج عن انهيار قيمة الدينار ارتفع إل 110 ملايين دينار في سنة 2012 مما يمثل ضعف المبلغ الذي حصل في سنة 2011 وقد تواصل الأمر على نفس المنوال على مدى كامل السنوات الأخيرة. بمعنى أن انهيار قيمة الدينار مثلت نسبة 18,1 بالمائة من المديونية الخارجية التي ارتفعت بنسبة 58 بالمائة تقريبا بين سنة 2010 وسنة 2014.
مما يدل بوضوح أن انهيار قيمة الدينار لعب دورا أساسيا في تعميق المديونية الخارجية للبلاد ومما يُستتنتج منه أيضا أن الخروج من هذه الدوامة الخطيرة لتعاظم المديونية يمر حتما عبر خطة محكمة ترد الاعتبار إلى قيمة الدينار التونسي.
وللمقارنة يجب التذكير بأن المغرب الشقيق الذي وقّع على اتفاق شراكة مع الاتحاد الأوروبي في نفس المدة تقريبا كان مُتفطّنا جدا لخطورة انزلاق عملته الوطنية الدرهم المغربي ازاء العملة الأوروبية مما جعله يُقرّر منذ البداية المحافظة على نفس سعر الصرف مقارنة مع الأورو حيث ما زال الدرهم المغربي إلى اليوم يلاحق الأورو عن قرب ولم يفقد إلا 12,5 بالمائة من قيمته في كل هذه المدة. هذه السياسة الحكيمة مكّنت المغرب من التحكم أحسن في المديونية والتحكم في الموازنات المالية الخارجية خاصة على مستوى الميزان التجاري وكذلك مزيد المحافظة على نسبة الاستثمار الداخلي.
التخفيض في قيمة العملة الوطنية يجب أن يكون قرارا سياديا يدخل في إطار خطة محكمة
يعتبر التقليص في قيمة العملة الوطنية مسألة سيادية بامتياز ويعتبر هذا القرار آلية من آليات السياسية المالية التي تنتج عنها تداعيات عديدة تختلف من وضع إلى آخر.
من ذلك مثلا عندما تكون بلاد ذات سيادة ولا ترضخ إلى ضغوط خارجية وتتوفر لديها منظومة إنتاجية (فلاحية وصناعية وخدماتية) مهيكلة ولها قدرة تنافسية كبرى، يعتبر قرار التقليص في قيمة العملة الوطنية بنسب قليلة آلية من الآليات التي تُستعمل من أجل دفع التصدير وتحسين الميزان التجاري وتحسين نسبة النمو والتشغيل في تلك البلاد. هذه الوسيلة كانت تلتجئ إليها بكثرة الحكومات الإيطالية سابقا في عهد الليرة الإيطالية وقبل الدخول في العملة الأوروبية. من ذلك نلاحظ اليوم أنه بالنظر إلى الركود الاقتصادي الحالي في إيطاليا وارتفاع نسبة البطالة وتقييد الحكومة الإيطالية بالالتزام بالعملة الأوروبية المرتفعة قيمتها أضاعت إيطاليا فرصة استعمال هذه الآلية مما خلق تململا كبيرا في الأوساط المنتجة وفي الأوساط الشعبية الإيطالية التي تدفع نحو الخروج من الاتحاد الأوروبي على غرار «البريكسيت» في بريطانيا.
غير أن الوضع في تونس يختلف تماما عن هذه الحالة، لأن انهيار قيمة الدينار يُعتبر مسألة هيكلية في علاقة بمنوال تنمية اقتصادي أصبح مُتكلّسا وغير قادر على أية إضافة مثلما صرح بذلك البنك المركزي التونسي في تقاريره الأخيرة حول المبادلات التجارية للبلاد (تقرير بتاريخ 17 فيفري 2017) لأنه مبني على سياسة المناولة لصالح الشركات الخارجية وخاصة منها الفرنسية بنسبة 40 بالمائة والإيطالية بنسبة 30 بالمائة والألمانية بنسبة 13 بالمائة التي استثمرت في القطاعات ذات القيمة المضافة المتدنية (النسيج والجلد والأحذية والشرائط الكهربائية) والتي تعتمد على اليد العاملة المتدنية الأجور وتتزود بالمواد الأولية والنصف مصنعة من الخارج كما تفضل الاستثمار في المناطق الساحلية لتوفّر البنية التحتية مما عمّق التفاوت الاقتصادي والاجتماعي بين الجهات الداخلية والساحلية في البلاد.
انهيار قيمة الدينار التونسي ومشروع منطقة التبادل الحر الشامل والمعمق «ALECA» : علاقة مريبة ؟
لذلك ومن هذا المنطلق يُعتبر انهيار قيمة الدينار الذي تتحمل الحكومة مسؤوليته الكاملة والذي جاء تحت الضغط المباشر من صندوق النقد الدولي ومن الاتحاد الأوروبي وتحت ضغط الشركات العالمية المنتصبة في تونس وفي علاقة أيضا من بعض اللوبيات المحلية، في وضع تضارب صارخ مع المصالح العليا الاقتصادية للبلاد.
ذلك لأن تخفيض سعر الدينار يعمل في صالح الشركات الأجنبية المنتصبة في بلادنا التي تقوم بتقدير كلفة الإنتاج المحلي بالدينار التونسي في إطار خدمات مناولة صناعية ويتم تحويلها بالعملة الأوروبية ممّا يُمكّنها من تقليص كُلفة الإنتاج ومن امتصاص كل الزيادات التي أجبرت عليها بعد الثورة وتحسين قدرتها التنافسية في الأسواق الخارجية على حساب مصالح الاقتصاد الوطني وعلى حساب القدرة الشرائية للمواطن التونسي وعلى حساب المؤسسات الوطنية التي أصبحت عاجزة عن مُجابهة المنافسة الخارجية نظرا لكُلفة الاستثمار بالدينار التونسي المنهار ونظرا لارتفاع كلفة القروض البنكية.
كذلك أخشى ما نخشاه أيضا اليوم بعد تصريح رئيس الحكومة يوسف الشاهد الأخير حول نية الحكومة التوقيع على اتفاق منطقة التبادل الحر الشامل والمعمق «ALECA» أن يكون انهيار قيمة العملة الوطنية، الذي يبدو مُمنهجا ومُتفق عليه نظرا لسلبية موقف السلطة الوطنية، مدخلا يجعل بلدان الاتحاد الأوروبي تنقضّ على مُمتلكاتنا الفلاحية وأوصولها التجارية ومؤسساتنا العمومية بأبخس الأثمان.