الشارع المغاربي: لم يسبق لقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل أن كثّفت من انتقاداتها اللاذعة للإعلام والإعلاميين التونسيّين، مثلما فعلت خلال الأشهر والأسابيع الأخيرة. وكأنّها قد أقرّت بذلك قطيعة مع امتدادات خطابها المناصر لحريّة الصحافة والرأي طيلة سنوات ما بعد الثورة. والحال أنّ الصحفيّين التونسيّين قد كانوا في طليعة المدافعين عن المنظمة النقابيّة العريقة ضدّ كلّ محاولات ضربها واستهدافها، زمن حكم الترويكا خصوصا.
وخلال الفترة الأخيرة، لم يمرّ تجمّع أو اجتماع نقابي إلّا واتُّهِم الإعلام التونسي بـ“شيطنة” اتحاد الشغل و شنّ “هجمة” عليه و“تشويهه” و“تأليب” الرأي العام و“تأجيجه” ضدّ النقابات والخضوع لوصاية السلطة والعمل بتعليماتها و“الدعاية” لتوجّهاتها، حتّى أضحى هذا الخطاب الموجّه بمثابة “عِلكة” أسلوبيّة تلوكها ألسن بعض القيادات المركزية والوسطى للاتّحاد.
ومع أنّه غالبًا ما كان أمين عام اتحاد الشغل نور الدين الطبوبي يحاول جعل اتّهاماته تلك مخصوصة على “بعض” وسائل الإعلام أو الصحفيين، منبّها إلى أنّه لا ينزع إلى “التعميم“، فإنّ تواتر هذه الانتقادات قد أسهم في حدّ ذاته في الترويج لصورة سلبيّة للمشتغلين عمومًا في قطاع الإعلام والصحافة في البلاد. ولا يخفى أنّ من الأساليب المعتمدة في صياغة الخطاب السياسي أنّ توجيه النقد مرارًا وتكرارًا إلى “جزء” هلامي مبهم من قطاع ما إنّما يؤدّي إلى وسم “الكلّ” بما ليس فيه، من خلال استهداف “بعضٍ” أو “جزءٍ” غير محدّد.
والمعلوم كذلك أنّ إطلاق الأحكام وتوجيه الاتّهامات حين يحصلان لا ينقضيان ولا يزولان بمجرّد التراجع والاستدراك أو حتّى بتقديم اعتذارات “مغلّفة“، على غرار تصرّف كاتب عام جامعة التعليم الثانوي لسعد اليعقوبي بعد توصيفه المتكالب على الصحفيين التونسيين بأنّهم “معرّة الصحافة في العالم“، ولاسيّما في ظلّ عدم اتّخاذ المركزيّة النقابيّة أيّ موقف واضح إزاء السقوط المذكور.
والأكثر من ذلك أنّ السيد نور الدين الطبوبي نفسه كان قد اتّهم وسائل إعلام، لم يُحدّدها، بأنّها “أصبحت صوت دعاية للسلطة“. وهو ما يُصنّفُ عمومًا ضمن توصيفات انطباعيّة سطحيّة، لا لعدم صحّتها، وإنّما لأنّها تعكس اتّهامات مستهلكة لا يُفترضُ أن تصدر عن المسؤول الأوّل عن أكبر منظمة نقابيّة في البلاد. فليس بسرّ أنّه كما للسلطة أذناب إعلاميّة فإنّ لساحة محمّد علي أيضا انصارا صحفيّة، سواء قبل الثورة أو بعدها. ومع ذلك فإنّ هؤلاء الصحفيين لا يُمثلون سوى أنفسهم، سواء انبطحوا لـ“القصبة” أو تملّقوا لـ“البطحة“، نظرا إلى عجزهم عن تحمّل مسؤوليّة أن يكونوا مستقلّين عن هذا وذاك أو عن سائر القوى السياسيّة والحزبيّة والماليّة المؤثّرة. وهو أمر مُسيء ومؤسف طبعًا، لكنّه واقع سائد في تونس أو حتّى في أعرق الديمقراطيّات، بمعنى أنّه لا يتعلّق تحديدا بـ“شيطنة” اتّحاد الشغل لأنّ “لحمتو حلوّة“، مثلما ردّد الأمين العام الطبوبي مؤخّرا.
وفي ظلّ هذا التهافت، يُخشى أنّه لم يبق أمام يعض القياديين في المركزيّة النقابيّة إلّا أن يستخدموا بدورهم لا قدر الله عبارة “إعلام العار” التي أطلقها أنصار “الترويكا“، وأساسًا أتباع حركة النهضة، على الإعلاميين التونسيّين حينما وقفوا صفّا واحدًا مع الحقّ والشرعيّة ضدّ الاعتداء الهجومي على اتّحاد الشغل ومحاولة الانقلاب على قيادته يوم 4 ديسمبر 2012، وإنْ أُجهِضَ التحقيق حول تلك الواقعة!.
ولا ريب أنّ التوازنات الداخليّة الجاثمة على المركزيّة النقابيّة وأجنداتها العابرة قد جعلت من الاتّحاد “طرفا” سياسيًا، بعد انخراطه في مسارات اتفاق قرطاج!. ورغم تواتر الانتقادات النقابيّة للإعلام التونسي، فإنّه لا سبيل اليوم إلى التشكيك في أنّ الاتّحاد كان وسيبقى بمثابة منارة باسقة للدفاع عن الحريّات الفرديّة والعامّة في البلاد، وفي مقدّمتها حريّة الرأي والتعبير والصحافة…