الشارع المغاربي-جمال الدين العويديدي في الوقت الذي يشهد الوضع العام في تونس مزيدا من التأزم والخطورة تجلت من خلال كل المؤشرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية دون منازع وأفضت إلى تواتر الأحداث الأليمة التي تعيش على وقعها البلاد وآخرها مأساة مستشفى الرابطة، تشهد أيضا المنطقة العربية وكذلك الإقليمية على مستوى عديد البلدان الأوروبية حراكا شعبيا عميقا لم يسبق له مثيل منذ عدة عقود.
كيف يمكن قراءة هذا الحراك الشعبي في كامل المنطقة و هل توجد روابط في ما بينها وبين ما يجري في تونس؟
فشل الأنظمة في تكريس التنمية و العدالة الاجتماعية
في خضم ما يجري من حراك شعبي في الجزائر الشقيقة الذي انطلق في البداية لرفض تجديد العهدة الخامسة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي أنهكه المرض،وسرعان ما تحول مباشرة إلى طرح أزمة نظام تسعى كل الأطراف الفاعلة من خلالها إلى ضرورة التأسيس لدستور جديد يفتح المجال لنظام جديد يقطع مع ظاهرة الفساد التي استشرت في ظل احتكار السلطة من طرف أقليات مقربة للنظام والمطالبة بتكريس مبادئ العدالة الاجتماعية وبناء الدولة مع التأكيد على ضرورة التصدي لكل تدخل خارجي يتربص بالجزائر وهي بادرة تنم عن مدى وعي الشعب الجزائري الشقيق.
كما يشهد المغرب الشقيق منذ عدة سنوات حراكا شعبيا عميقا أيضا مازال متواصلا رغم القمع والمحاكمات المُسلّطة على رموز هذه الانتفاضات. حيث شهدت البلاد قبل أيام مظاهرة كبيرة في العاصمة الرباط نظمها قطاع التعليم أمام البرلمان لمساندة المعلمين الشبان غير المرسمين رُفعت فيها شعارات الحرية والكرامة الوطنية وضرورة التصدي لخصخصة مرفق التعليم العمومي وهي نفس السياسة التي يتم اتّباعها في تونس كذلك منذ عدة عقود.
في نفس السياق لا يجب أن ننسى الحراك الشعبي في كل من السودان ولبنان والأردن والعراق أيضا وهي انتفاضات تحمل نفس العناوين التي تتمحور حول الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في علاقة بسوء الحوكمة واستشراء ظاهرة الفساد في ظل الاستبداد بالسلطة.
في نفس الوقت تتواصل الاحتجاجات الأسبوعية لحركة “السترات الصفراء” في فرنسا على امتداد أربعة أشهر بدون انقطاع تطالب كذلك بالعدالة الاجتماعية وبالسيادة الوطنية في علاقة بسطو الاتحاد الأوروبي على القرارات والحقوق الوطنية. كما تدعو إلى ضرورة تغيير مفهوم التمثيل الانتخابي لينتقل إلى تكريس أعمق لحكم الشعب المباشر عن طريق الاستفتاء الشعبي في القوانين والقرارات المصيرية للبلاد خاصة تلك التي تتعلق بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية. حركة “السترات الصفراء” أصبحت اليوم ظاهرة اجتماعية عميقة وهي محل دراسات عديدة الجوانب رغم حداثتها نظرا لما بينته من واقع مرير للوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي كرس التفاوت بين فئات الشعب واستفراد الأقليات المتنفذة بالثروات الوطنية على حساب غالبية الشعوب، وهو قاسم مشترك لكل هذه الأنظمة.
كذلك وفي نفس السياق نلاحظ أن الشعب البريطاني الذي صوت منذ سنة 2017 في استفتاء “البريكسيت” لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي وأمام ضعف وعجز رئيسة الحكومة “تريزا ماي” في تطبيق القرار عبر تمرير اتفاق يُحظى بموافقة الطرفين قرر كذلك النزول يوم السبت الفارط إلى الشارع ليضغط بقوة شعبية فاقت المليون نسمة حسب بعض التقديرات من أجل التعجيل بحل سريع بما فيها طرح إمكانية استفتاء شعبي جديد في الموضوع. مما يُثبت أن الشعوب الواعية تتحرك في الوقت المناسب وبالسرعة المناسبة لكي تضع حدا للتسيب والعبث بمستقبل البلدان.
ثمانية سنوات من الفشل الذريع في رسم سياسة وطنية لإخراج البلاد من الأزمة و بعث الأمل في الشعب التونسي
رغم اختلاف مستوى النمو بين كل البلدان العربية وبين البلدان الأوروبية نلاحظ أن القاسم المشترك الذي يحرك الشارع اليوم في كل المنطقة يتعلق بالأساس بموضوع التفاوت بين فئات المجتمع حيث أدت سياسة العولمة وتحرير التجارة إلى استحواذ أقليات ضئيلة على أهم الثروات والمؤسسات في كل البلدان المعنية. حيث نلاحظ تقلص الاقتصاد المنتج وتقلص فرص العمل بالتوازي مع تسلط المؤسسات المالية التي تحقق كل سنة مزيدا من الأرباح الطائلة على حساب صغار الفلاحين وصغار المهنيين بشتى أنواعهم وكذلك عل حساب المؤسسات الصغرى والمتوسطة مما أدى إلى تقلص القدرة الشرائية لأغلبية الشعب وانتشار ظاهرة الفقر وتقلص الخدمات الاجتماعية العمومية خاصة في الصحة والتعليم بما في ذلك في البلدان المتقدمة حتى وإن كان نسبيا مثل فرنسا وبريطانيا وإيطاليا والبرتغال علاوة على اليونان التي تعيش أزمة مستمرة قرابة العقدين.
بالرجوع إلى الوضع القائم في تونس نلاحظ أنه بعد فترة سقوط النظام السابق ساد الشعب التونسي أمل كبير في تغيير الوضع بصفة تضمن العيش الكريم لكل فئات الشعب مما جعله يندفع بقوة للمشاركة في أول انتخابات اعتقد أنها وفرت حد أدنى لضمان الشفافية والمصداقية مما دفع نحو المشاركة المكثفة في هذه الانتخابات سعيا للتغير لما هو أفضل. غير انه سرعان ما خابت آماله بالنظر لما آل إليه الوضع الاقتصادي والاجتماعي ولما تبين من ممارسات للأحزاب الفائزة التي سعت للتمكين من السلطة أكثر من حرصها على تغيير الوضع الاقتصادي والاجتماعي وتحقيق أدنى مستوى من العدالة الاجتماعية رغم الوعود التي سوقت لها برامجها الانتخابية والتي تبين زيفها بالكاشف.
نفس السيناريو تمت إعادته أثناء الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2014 حيث نجح كل من حزب النهضة وحزب نداء تونس للدفع نحو تمحور الحملة الانتخابية حول موضوع ” الحداثة – و الإسلام السياسي” وإقصاء مسألة البرامج الاقتصادية والاجتماعية من هذه الحملة وذلك سعيا للانتفاع مما سمي “بالتصويت المفيد” الذي حقق هدف الطرفين وأدى إلى نجاح الحزبين في الانتخابات التشريعية ونجاح الباجي قائد السبسي مؤسس حزب نداء تونس في الانتخابات الرئاسية.
لقد بينت هذه الانتخابات أيضا أن حزب النهضة فرض نفسه كطرف سياسي منضبط ومنظم بطريقة ضمنت له الحصول على ثاني أكبر كتلة برلمانية سرعان ما تحولت إلى أول كتلة اثر انشقاق الصف في حزب نداء مما جعله يتحكم في مفاصل السلطة في البلاد بصفة متواصلة منذ سنة 2012 إلى اليوم.
بهذه الصفة ودون منازع فهو يتحمل مسؤولية كبرى و مباشرة في تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي في البلاد بالنظر لثقل وزنه البرلماني في تمرير نفس السياسة الليبرالية الموالية للوبيات المحلية وللجهات الخارجية المسيطرة على الوضع الاقتصادي في البلاد منذ برنامج الإصلاح الهيكلي الذي نفذه صندوق النقد الدولي في سنة 1986. كما تبين أيضا أن حزب النهضة فتح الفرصة لصندوق النقد الدولي أثناء حكومة الترويكا للتدخل من جديد في الشأن الاقتصادي الوطني مما أدى إلى ارتهان البلاد و ومصادرة السيادة الوطنية بطريقة لم تعرف لها البلاد مثيلا منذ الاستقلال. حيث تفاقم التداين العمومي كما تعمق انخرام التوازنات المالية الخارجية نتيجة التوريد المكثف والفوضوي مما زاد في انهيار قيمة الدينار وفي تراكم البطالة. كما شهدت البلاد المزيد من تفشي ظاهرة الفساد من خلال التهرب الجبائي وتغول الاقتصاد الموازي وتهريب رؤوس الأموال إلى الخارج. بالطبع لا يجب أن ننسى دور حزب النداء في تمرير هذه السياسة التي تعتبر من القواسم المشتركة التي جمعت بين الحزبين لحكم البلاد منذ سنة 2015 إلى اليوم.
هذا الفشل الذريع الذي تتحمله اليوم الحكومة الحالية لا يمكن تفسيره إلا من خلال انعدام توفر الإرادة السياسية لدى كل الأحزاب التي حكمت البلاد منذ سنة 2011 إلى اليوم لتغيير المنوال التنموي عبر التدقيق الجدي في كل المواضيع ذات الصلة مثل الديون وتداعيات خصخصة العديد من المؤسسات العمومية ذات الصبغة الإستراتيجية والاتفاقيات الملزمة التي وقعها النظام السابق. كما رفضت المكاشفة والمحاسبة في موضوع الفساد بطريقة موضوعية وجدية حتى تتمكن البلاد من الخروج من هذا المستنقع الذي أصبح يهدد كيان الدولة و مستقبل أجيالها.
لقد قام المستعرب الياباني” نوبواكي نوتوهارا” في كتابه “وجهة نظر يابانية” الذي نشره في سنة 2003 بعد خبرة أربعين عاما تابع فيها الرواية العربية ودرس فيها المجتمعات العربية، بتقديم بعض الأفكار والانطباعات عن الشخصية العربية. حيث أكد أن “الحكومة في البلدان العربية لا تعامل الناس بجدية، بل تسخر منهم وتضحكك عليهم” وهذا ما يؤدي حسب رأيه إلى أنه ” عندما يعامل الشعب على نحو سيء فإن الشعور بالاختناق والتوتر يصبحان سمة عامة للمجتمع بكامله”. وهذا يلخص وضع الحال في بلادنا حقيقة. حيث لا يمكن أن ينسى الشعب التونسي الوعود التي قدمتها الأحزاب في انتخابات سنة 2011 وانتخابات سنة 2014 والتي كشفت مدى استخفاف هذه الأحزاب بالشعب وبتطلعاته المشروعة.
لقد تجلت حقيقة هذه التقييم بكل وضوح اثر كلمة رئيس الجمهورية الأخيرة بمناسبة عيد الاستقلال حيث اعترف بكل المؤشرات الكارثية التي تلخص الوضع الخطير في البلاد، ولكنه تنصل من مسؤوليته وهو الذي قّدم وعودا للشعب التونسي لا يُمكن أن تُنسى. بل وقد قام بتوظيف هذه الكوارث الوطنية سعيا لحسم الخلاف بينه وبين رئيس الحكومة الذي عينه بنفسه منذ سنتين ونصف تقريبا وبين حزب النهضة المساند الأساسي لهذه الحكومة. وهي في الحقيقة مسؤوليات مشتركة بين الأطراف الثلاثة لا يمكن بأي حال أن يتنصل منها أي طرف.
ما يجري اليوم من مناورات سياسية بين أهم الأطراف الماسكة بالسلطة في البلاد والتي بدأت تتمحور حول مسألة تغيير الدستور في اتجاه تعزيز دور رئيس الجمهورية، يعتبر حسب اعتقادنا تحويل وجهة الشعب التونسي للتغطية على النتائج الكارثية الاقتصادية والاجتماعية التي وصلت إليها البلاد.
لقد تبين بالكاشف أن كل الأطراف الماسكة بالسلطة منذ 2011 إلى اليوم لا تمتلك أي إرادة سياسية لتغيير الوضع الاقتصادي والاجتماعي في البلاد ولا تمتلك أية رؤيا إستراتيجية تمكنها من قراءة عميقة لما يجري وإعادة النظر في المسيرة التنموية التي يجب أن تتمحور حول إعادة بناء الدولة الوطنية لتأمين حقوق المواطن التونسي في العيش الكريم في وطن حر ومستقل.
هذا المشهد الذي نعيشه اليوم في أفق استحقاقات انتخابية طغت عليها المناورات السياسية العقيمة التي تراهن على نفور المواطن عن التصويت وتدفع نحو حصر اللعبة الانتخابية بين ثلاثة أطراف ثبت فشلها بكل المقاييس وفاقدة لأي مشروع تنموي سوف تؤدي إلى تعميق أزمة الثقة بينها وبين الشعب وسوف تفضي حتميا إلى الدفع نحو اللجوء إلى الشارع للحسم في هذه الأزمة الخطيرة التي تعيشها البلاد.
صدر بالعدد الاخير من أسبوعية “الشارع المغاربي”.