الشارع المغاربي-عواطف البلدي: اعتبر الباحث في الشؤون السياسية وتاريخ الاقتصاد الدكتور أيمن البوغانمي أن الثورة التونسية “كارثة سياسية” وأنها ليست فرصة مثلما يرى البعض الاخر… مضيفا أن الرئيس قيس سعيّد مؤدلج ضد الاحزاب وأن تفكيره السياسي منعدم..وأكّد البوغانمي ان تونس لن تقدر على مقاومة التطبيع بعد شقيقها المغرب داعيا الى ضرورة انشاء احزاب تكون قادرة على احداث مشاريع وتقديم حلول.
انطلاقا من العام الى الخاص ومن الدولي الى الوطني.. كيف ترى تأثيرات فوز الديمقراطي بايدن وهزيمة ترامب على التوازنات الدولية وعلى السياسة الامريكية بمنطقتنا؟
لا شك ان سياسات ترامب في المنطقة العربية كانت سياسات مختلفة عما سبقها بغض النظر عن تقييمها ايجابيا او سلبيا.. ترامب اعتمد سياسة المتاجرة تقريبا.. البيع والشراء .. التنازلات مقابل التنازلات ، الضغط مقابل الضغط في سبيل تحقيق مآرب سياسية وجيوسياسية في المنطقة خاصة لصالح اسرائيل .. المشكلة في سياسة ترامب انه كان قريبا جدا من اليمين المتطرف الاسرائيلي خاصة ان الحكومة الحالية في اسرائيل بقيادة بنيامين نتنياهو هي حكومة امعنت في التعدي على الفلسطينيين وعلى حقوقهم حتى في اطار ما يسمى بالشرعية الدولية . دفع ترامب نحو تطبيع يقوم على اساس الفكر اليميني المتطرف في اسرائيل، بمعنى ان السلام لا يأتي بمقابل اي شيء، السلام مقابل السلام.. هناك فكران في اسرائيل في ما يتعلق بموضوع السلام، هناك من يقول إن السلام لابد ان يكون بمقابل السلام وهناك من يقول وهم اليساريون السلام يأتي بمقابل تنازلات تقدمها اسرائيل.. المشكل ليس فقط في التطبيع بل مع من يتم هذا التطبيع.. التطبيع اليوم يتم مع اليمين المتطرف مع الاحتلال حتى بمعنى الشرعية الدولية ومع تهويد القدس.. اذن من يرفضون التطبيع جملة وتفصيلا يجانبون الصواب لأن هناك تطبيعا كان يمكن ان يكون اقل سوءا مما يحصل اليوم لأن ما يحدث اليوم بدفع من ترامب في المنطقة العربية هو تطبيع مقابل لا شيء للقضية الفلسطينية وهو ما يعني التفكيك التام تقريبا للقضية الفلسطينية..
هل تعتبر هزيمة ترامب ضربة لليمين المتطرف وللشعبويات في العالم؟
ضربة؟.. لا اعلم ولكن الأكيد أن بنيامين نتنياهو واليمين المتطرف في اسرائيل يتحسران جدا على رحيل ترامب .. في تصريحاته بعد انتخاب بايدن لم يكن كلام نتنياهو بالحرارة التي تعودناها في المسائل الديبلوماسية حتى انه لم يذكر بايدن كرئيس منتخب بشكل صريح ولكن هذا لا يعني ان بايدن سيغير الوِجهة العامة.. يمكنه فقط تغيير الشكل او الخطاب العام ولكن المضمون والمحتوى لن يتغيرا بالشكل الذي يوحي به خطاب بعض المتفائلين في العالم العربي.. لن تتغير لأسباب موضوعية لأن الولايات المتحدة الامريكية تدير ظهرها بشكل تدريجي في ما يتعلق بالقضايا الشرق أوسطية.. ما يهم الولايات المتحدة الامريكية هو المحيط الهادئ الآن.. الصين وما حولها..
على ذكر التطبيع، قراءتك لمسألة التطبيع مع المغرب وهل تتوقع أن تكون تونس الوجهة بعد المغرب؟
استمعت الى تصريح النائب الفرنسي عن الفرنسيين في الخارج ماير حبيب وهو من اسرائيل وقريب من دوائر ايمانويل ماكرون يتبنى خطاب اليمين الاسرائيلي بشكل واضح ويدعو بشكل مبطن ماكرون الى الضغط على حلفائه في العالم العربي حتى يقوموا بنفس الخطوة وقد ذكر تونس وهو من اصل تونسي والجزائر تحديدا وهو ما يعني ان الموجة ستكون عاتية والسؤال هو: هل ستقدر تونس على المقاومة ام لا؟ الحقيقة لا اتصوّر لأسباب عدة من بينها ان تونس لا تملك القوة للمقاومة وثانيا والاهم بحكم ان الضعف الاقتصادي التونسي يجعلنا مرتهنين للقرار الدولي.. هو مشكل الصرار والنملة في الاقتصاد اذ حين تكون صرارا كثيرا ما تكون تحت رحمة النملة وتونس كبلد هي فعلا صرار لأنها لا تستطيع ان تنتج اكثر مما تستهلك بل تستهلك أكثر مما ينتج وهذا يجعلها دائما في تبعية للقرارات الدولية في العواصم الكبرى وعلى رأسها باريس واشنطن.
لنبقى في فرنسا.. كيف تنظر الى ما سمّي بالانتفاضات الصغيرة كحركة أصحاب السترات الصفراء وما يحصل في الضواحي الباريسية والتململ في صفوف الجاليات المسلمة بفرنسا؟
ربما تكون عبارة “انتفاضة” كبيرة لأني اعرف جيدا فرنسا.. هناك حراك خاصة السنة الماضية قوي نسبيا ولكنه تراجع بشكل كبير والاكيد انه كان من ضحايا كوفيد 19 الذي سمح بنوع من الممارسات السلطوية حتى في البلدان الديمقراطية.. فحين تكون عندك ازمة صحية لا تستطيع الحرية ان تقاوم حجة الصحة… السترات الصفراء وغيرها من التحركات الشبيهة هي نتيجة لتطور تكنولوجي معين .. هذا التطور اصبح يسمح بنوع من التنسيق الافقي في السابق كان لابد لتنظيم حراك من وجود مركزية وعادة تكون نقابية وبشروط عن طريق تنظيم هرمي ووجود قيادة تدير النقاش والتفاوض مع السلطة وتكون الجماهير تقريبا في تبعية لمزاج القيادة وقراراتها. الان اصبح التنظم افقيا… بفضل او بسبب التكنولوجيا ومواقع التواصل الاجتماعي التي سمحت بتحقيق شكل من التنظم خارج الاطر المؤسساتية.. هناك صعوبة كبيرة في التعاطي معه لأسباب موضوعية لانك لا تملك محاور.. على عكس النقابة مثلا التي يسهل التحاور معها… مع السترات الصفراء كانت السلطة في حرج لأنها لم تعرف مع من ستتحاور وهذا ما تعاني منه تونس ايضا في ما يسمى بالتنسيقيات وهي ظواهر متشابهة جدا على الاقل على مستوى البنية التحتية التي تمكن من ظهورها.
وماذا عن تململ الجاليات المسلمة؟
تململ الجاليات المسلمة هو وضع خاص لان سمعتها ساءت كثيرا منذ 11 سبتمبر ولكن الامر يزداد سوءا مع كل عملية ارهابية ويمكننا نحن المسلمون ان نردد تلك القصة التي تقول إنه لا علاقة للارهاب بالاسلام بل حتى وان تبنّى السياسيون والنخب الفرنسية نفس الخطاب الا اننا أحببنا ام كرهنا حين تتكرر الظاهرة ويكون الدين العامل المشترك بين كل الارهابيين فلا بد ان نفهم ونتفهّم ردات فعل المجتمع الفرنسي ضد المسلمين .. انا لا ابرر ذلك طبعا. وهذا طبعا يتلقفه السياسيون لانهم يعلمون ان مصيرهم السياسي مرتبط بمزاج الرأي العام الفرنسي الذي اصبح مناهضا للاسلام وللمسلمين.. والسياسيون بدأوا يتّبعون هذا النسق وبدأت الخطابات توجه نحو وجهة ضرورة مراقبة المسلمين في ممارسة عباداتهم والخطب التي تلقى في المساجد وكيف يمكن تنقية هذه الخطب من كل الشوائب الارهابية ثم مراقبة مواقع التواصل الاجتماعي فلوْلا هذه البنية التحتية الجديدة والقدرة على التنظيم الافقي لما امكن ذلك .. طبعا الجالية المسلمة تشعر بأنها اصبحت مستهدفة وبالتالي تريد ان ترد الفعل وردة الفعل هذه تعمّق الازمة اكثر مما تحلها.
وكيف تقرأ التعامل الرسمي مع هذا التململ؟
واضح انه أصبح ينحو نحو التطرفّ.. هناك مغازلة لخطاب اليمين المتطرف ولجمهوره ماري لوبان والجبهة الوطنية التي اصبحت لها شعبية تفوق 30 بالمائة عند الفرنسيين… اذكر سنة 2001 حضرت اول انتخابات فرنسية حين تحصل لوبان على 17 بالمائة كانت صدمة.. اليوم مارين لوبان قادرة ان تكسر حاجز الـ 30 بالمائة… وأصبحت تقريبا تكاد تكون مرشحة اليا الى الدور الثاني في الانتخابات الفرنسية… السياسيون الفرنسيون امام هذا التطور في المزاج العام الفرنسي اصبحوا لا يترددون في مغازلة جمهور الجبهة الوطنية وفي محاكاة خطاب اليمين المتطرف وهو ما ينبئ بمستقبل لا اعتقد انه سيكون مريحا للمسلمين بفرنسا.
هل ان “الماكرونيزم” هي تنظّم سياسي جديد ورؤية سياسية جديدة تتجاوز الاحزاب السياسية التقليدية كما يراه البعض؟
بالنسبة لي كباحث في التاريخ موضوع تجاوز الاحزاب السياسية كلام نجده في نصوص كتبت في القرن 18 وبالتالي تجاوز الاحزاب هو خطاب دائما ما يجتر دون حقيقة معنى..اولا ما معنى التجاوز وأولا ما هو الحزب السياسي.. هو مجموعة من الناس تنظّمت سياسيا يمكننا تسميته تنظّم او حركة او حراك ولكن يبقى في هذا المطاف وبعد ما وصل ماكرون لرئاسة فرنسا مباشرة حوّل حركته التي اوصلته الى السلطة الى حزب “الجمهورية الى الامام”… المهم في الموضوع هنا ليس تجاوز الاحزاب ولكن تجاوز الاحزاب القائمة على بنية سوسيولوجية مستقرة لأنه كانت للاحزاب الى حدود بداية القرن 21 بنية سوسيولوجية مستقرّة بمعنى ان ثمة حزب يكون مؤسسة وحزب منتشر في المجتمع لكن ثمة مؤسسة وجمهور .. وهذا الجمهور يكون مستقرا ربما يتغيّر او يحدث شيء من التدحرج بالتصويت يمينا احيانا ويسارا احيانا اخرى ولكن دائما ثمة وفاء للحزب السياسي او للعائلة السياسية التي تنتمي إليها بعض الاحزاب.. يبدو ان البنية السوسيولوجية لكل المجتمعات اصبحت في حالة حراك وسيولة دائمة..
اذن كيف يتم التعامل مع هذه الظاهرة؟
من خلال ظهور احزاب ظرفية .. احزاب تلقى نوعا من النجاح اما على اساس الكاريزما لقائدها او على اساس الصدفة او على اساس الغموض او الشعبوية في الخطاب ولكن في كل الاحوال لا يمكن لأية ديمقراطية ان تتجاوز الاحزاب لأن تجاوز الاحزاب يعني العمل الفردي..
كأن هذه التوصيفات (الصدفة، الغموض، الشعبوية في الخطاب..) تنطبق أيضا على قيس سعيّد ومع ذلك لم نلحظ تقاربا على مستوى سير عمل الرجلين (ماكرون وسعيد) ؟
بالضبط.. لأن قيس سعيّد ايديولوجيّا هو مؤدلج ضد الاحزاب.. وهو القائد الذي استفاد من هذه الموجة .. تفكيره السياسي ضعيف واكاد اقول إنه منعدم ولا تكوين سياسي له… ولم يحِطْ نفسه بمن يوفّر له ذلك التفكير السياسي وهو ما يجعله معزولا سياسيا في ممارسة مهامه… كيف ستتطور الامور في ما بعد؟ انا اتوقع ان صلوحية كل هذه الاحزاب القائمة على سوسيولوجيا متحركة ستكون قصيرة المدى ربما بضع سنوات او ربما مدة سياسية او مدّتين ولكن اظن انه بالنسبة للحالة التونسية ان لم يتطور الفكر السياسي لقائد هذه التجربة فستكون التجربة اقل عمرا…
هل لنا سياسة خارجية أو بمعنى أدق هل رصدتَ سياسة خارجية لقيس سعيّد؟
أولا بغض النظر عن سعيّد.. السياسة الخارجية لبلد ما على عكس ما يروج لدى النخبة التونسية مرتبطة بقدرته على ممارسة السياسة وليس برغبته او بتسلّطه وهذه القدرة تضم 5 عناصر وهي وزنك العسكري والثاني وزنك الاقتصادي والثالث عمقك الجغرافي والرابع موقعك الاستراتيجي والعنصر الخامس هو “السوفت باور ” soft power يعني قدرتك على التأثير .. هنا ودون لف او دوران ليس لتونس اي من هذه العناصر الخمسة مقارنة بغيرها وحتى موضوع الموقع الاستراتيجي هذا كان في العهد القرطاجي او خلال الحروب الصليبية ولكن الان قيمة الموقع الاستراتيجي لتونس ضعيفة بل بالعكس قيمته في أن يجعل تونس في موقع اعصار.. الى حدود العشرية الاخيرة تنظّمت العلاقات الدولية حول هيمنة الولايات المتحدة الامريكية على العلاقات الدولية ومن قبلها تقاسم الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد السوفياتي الهيمنة وهذا معروف.. ما معنى هذا الكلام انه في المنطقتين الشرق أوسطية والمتوسطية كان ثمة نوع من الاستقرار المفروض خارجيا بمعنى انه لا توجد قوة وسطى مثل تركيا او حتى فرنسا قادرة على المغامرة والخروج عن ارادة المهيمنيْن خلال الحرب الباردة والمهيمن الكبير في ما بعدها … ثم ان منطقتيْ الشرق الاوسط والمتوسط مهمتان جدا في موضوع توفير الطاقة بالنسبة للعالم وللولايات المتحدة الامريكية تحديدا… هذا تغير الان لسببين اولا ان الولايات المتحدة اصبحت منتجا للطاقة ومصدرا للطاقة بحكم تطوير اساليب جديدة في استخراج النفط الصخري والنفط العميق وغير التقليدي… دخلت الولايات المتحدة الان في صراع مع الصين واصبح اهتمامها مركزا على منطقة المحيط الهادئ هذا يعني ان المنطقتين اللتين ذكرت فقدتا اساسا مهما جدا للاستقرار النسبي قبل العشرية الحالية وهو ما يفسر بشكل كبير التقلبات الكثيرة واللامتناهية تقريبا التي ظهرت في المنطقتين وهو ما يفسر ايضا وجود مغامرين جدد على غرار تركيا ومصر وقطر والامارات وايطاليا وفرنسا الذين اصبحوا يبحثون عن ممارسة السياسة بمنطقة المتوسط وهو ما يعني ان كل المنطقة المحيطة بتونس وهي معنية بها بشكل مباشر اصبحت في حالة تقلّب بما يعني انها يجب ان تكون حذرة جدا … ما يقلقني ان الجزء الذي يخصنا والذي نحن مسؤولون عنه ان نكون فاهمين.. وهذا غير متوفر… في الحقيقة لا ارى سياسة خارجية لدينا اليوم .. السياسة الخارجية التونسية منكفئة على الذات وقائمة على نوع من المصلحية قصيرة المدى عبر تحقيق بعض المنجزات الاجتماعية بأموال خارجية ولا ألوم رئاسة الجمهورية على غياب السياسة الخارجية لأننا نفتقر لوسائل ممارسة السياسة الخارجية..
تحيي تونس بعد يومين الذكرى 10 للثورة .. بعد عقد من سقوط النظام وانتفاضة الشعب التونسي .. هل نحن في مأزق ام على عتبات موجة جديدة؟
عادة ما تكون الازمة عتبة لمرحلة جديدة حتى على المستوى الايتيمولوجي للكلمة… لدي تصور خاص للثورة يختلف عن كل المفاهيم الموجودة في المجال العام .. لا اعتبر الثورة فرصة مثلما يذهب الى الاذهان.. انا اعتبر الثورة كارثة سياسية.. يعني حين تنعدم السياسة وحين يهيمن ما هو غير سياسي على المشهد..
هل انت ضد ثورة 2011؟
أقول ان النظام الناجح هو الذي يترك لك مؤسسات تبني عليها… دائما هناك استمرار بينما النظام الفاشل هو الذي يترك لك ثورة تعاني منها وتعتقد انها فرصة.. اعتقد ان النظام يتحمل مسؤولية الثورة الاخلاقية لأنه لم يستطع ان يتطور بحيث يمنع قيام الثورة ويستمر البناء تدريجيا… اذا اردنا تعريف الثورة بطريقة ايجابية نقول ان الثورة هي استثمار سياسي عالي المخاطر. يعني نريد ان نبني في بضعة سنوات ما ينبغي ان يبنى في عقود وربما في قرون على غرار الديمقراطيتين البريطانية والفرنسية اللتين بنيتا في اكثر من قرن… هذه من مفاهيم الثورة ثم المفهوم الثالث الثورة هي ظاهرة الخروج عن القانون وعن الدستور… لما حدثت ثورة 2011 كنت اعتقد ان الطامة الكبرى ستحل بتونس .. لو سألتيني في 2011 عما سيحصل في تونس لأجبتك ان ما سيحدث هو شيء يشبه الاحتراب او الحرب الاهلية ولكنّنا استطعنا ان ننجو من تلك الفترة… هناك الكثيرين ممن يقولون ان توقعي ذلك مستحيل.. لكن اظن ان ذاكرة هؤلاء ضعيفة لأن ما حدث سنة 2012 و2013 من اغتيالات سياسية وعمل المجلس التأسيسي وبداية توحش المجتمع وذلك الخطاب الاستقطابي الثنائي كل ذلك يؤشر الى ان تونس كانت يمكن ان تنزلق مثل ليبيا رغم الاختلاف السوسيولوجي بينهما… كيف نجت تونس من ذلك المستنقع؟ .. نجحت بفضل مبدأ الاعتدال بمعنى الاطراف المعتدلة في شق الاسلاميين والشق العلماني وفي شق الثورة المضادة وشق اليساريين والنقابيين كل هذه الاطراف اجتمعت على كلمة سواء سميت في مرحلة أولى الحوار وفي مرحلة ثانية التوافق… تلك التجربة احبطت الكثيرين لأنها ليست بالرومانسية التي عاشوها خلال الثورة… احبطت النخبة لأنها ليست فاهمة وهي نخبة تحب الشيء ونقيضه …
كيف ومتى تنجلي مخلفات هذه “الكارثة” على حد تعبيرك؟
سئل رئيس وزراء الصين شوان لاي خلال السبعينات عن نتائج الثورة الفرنسية فأجاب it’s early to know من المبكّر معرفة ذلك اي انه يعتبر انه بعد مرور 180 سنة على الثورة الفرنسية مازال الوقت باكرا للحكم على نتائجها وانه شخصيا لا يعرف ذلك… تنجلي مخلفاتها عندما يتفق الجميع على الالتزام بالدستور وبالقانون وحتى تغيير الدستور لابد ان يتم من داخل الدستور.. هناك من يقول ان فرنسا اصبحت ديمقراطية سنة 1981 لان اليسار الفرنسي الذي كان يدعو لثورة ماركسية تاب وتخلى عن فكرة الثورة واندمج بشكل واضح في حكومة فرانسوا ميتران … اليوم تونس لا تزال تعج بالخطاب الثوري…
يرى بعض المحللين ان اهم معطلات الانتقال الديمقراطي هو “الفاشيات الصاعدة” وترذيل الثورة والحنين لنظام بن علي؟
بالنسبة لي الخطاب الثوري هو الذي يرفض الواقع ويدعو الى قطيعة راديكالية معه.. انا ارفض كل اشكال الخطاب الثوري …
ماذا عن خطاب عبير موسي؟
خطاب عبير موسي ثوري .. تريد قطيعة مع الواقع.. كل اشكال هذا الخطاب اعتبرها خطابا ثوريا سواء قام على اساس الثورة المضادة (التجمع) سواء قام على اساس الثورة الاسلامية او على اساس الثورة الماركسية… بالنسبة لي الاسس لا تعنيني كثيرا انا اتبنى الديمقراطية واعتبر ان الحل يكمن في التطوير من الداخل وببطء.. لأن التطوير السريع وعدم الصبر على الازمات والمطالبة بالقطيعة مع واقع معين لا تخلق قطيعة لان الواقع يدركك دائما ويعطيك مزيد تأزيم الواقع… فهذه الخطابات بكل اشكالها التي تطالب بقطيعة كأنه لم يحدث شيء منذ 2011 او بالعودة لما قبل 2011 ..او بعودة الاستعمار الفرنسي.. كلها خطابات رجعية، بالنسبة لي كلها ذات نفس ثوري لأنها ترفض الواقع ولأنها تريد ان تخلق شرخا جديدا نحن في غنى عنه تماما والمجتمع التونسي لا يتحمل هذا..
ما الحل اذن؟
لابد ان نلتزم بالاساليب الديمقراطية في النقاش وان نتجاوز الابعاد الهووية في الصراع وان نفكر جديا في انشاء احزاب تكون قادرة على احداث مشاريع وتقديم حلول للمشاكل الحقيقية للتوانسة… ثمة اساليب لكن لابد من تجاوز الاحلام الثورية… الثورة المضادة (التجمع) وفي حال العودة الى 2011 لابد من توفر كمية عنف اكبر بكثير من تلك التي كانت تمارس قبل 2011 ببساطة لانها ستعيد الناس الى الخوف ولذلك يلزمهم صدمة عنف شبيهة بتجربة عبد الفتاح السيسي في مصر.. اذا قارنا بين عنف السيسي وعنف حسني مبارك لا نجد اي فرق وانما حُلّت عقد الالسنة وانتهى الخوف من السلطة واصبح هناك عدم احترام لها وعدم قدسية لصاحب السلطة ….. لاعادة كل ذلك نحتاج الى صدمة عنف رهيبة جدا والى خلق شرخ عميق جدا في المجتمع ولو عدنا الى ما قبل 2011 لابد من ثورة مضادة ولن تكون بالعودة الى استخدام العنف على طريقة بن علي بعنف مضاعف عشر مرات من عنف بن علي..
انت هنا تتحدث عن دكتاتورية جديدة؟
الشعب دائما ما يحن الى الماضي… المشكل في النخبة حين تغيب عنها متطلبات الطموح الذي ترصده امامها.
هناك من النخب من ترى اليوم ان عبير موسي هي الحل والخلاص؟
فعلا وهناك ايضا من النخب من يرى الحل في سيف الدين مخلوف… للأسف ثقافتنا السياسية والتاريخية -خاصة لدى النخبة- ضعيفة حتى لا اقول منعدمة… لكن لنعود الى التصنيف العلمي لنظام بن علي… هو نظام دكتاتوري “تافه” غايته الوحيدة البقاء في السلطة بممارسة نوع من العنف النسبي… بينما العنف الذي نراه اليوم هو عنف غير رسمي لا يوجد رئيس حكومة او جمهورية او مسؤول في الدولة يمارس العنف ويصرح بذلك.. وبالنسبة للعنف الذي نراه في المجلس احساسنا به مبالغ فيه جدا… ما نرى من عنف هو تلاسن واحتكاكات جسدية ولكن اذا قارنّا هذا بعنف رسمي مثل الزجّ باحدهم في السجن اذا انتقد رئيس الدولة ..تبدو ان المقارنة لا تقوم على نفس المعايير..
هل تتحمل نخبتنا وخاصة المثقفة مسؤولية في هذه الازمة العميقة والهيكلية التي نعيشها اليوم دولة وشعبا؟
نحن في تونس لا نعرف ماذا نريد. نريد ان نكون ديمقراطيين وثوريين في نفس الوقت وانا اقول بالتناقض بين الثورة والديمقراطية .. نريد في نفس الوقت ان نكون مثل الكوريتين الشمالية والجنوبية .. نريد ان نكون دولة ديمقراطية أليفة لطيفة متطورة ومصنّعة للتكنولوجيا وتعتمد على الذكاء مثل كوريا الجنوبية ونريد ان نحارب الاستكبار الدولي والمحلي والاسلامي والعلماني والاوروبي والامريكي دون لا الجهد ولا العمل الذي يقدمه الكوريون الجنوبيون الذين يشتغلون ليلا نهار ولا نريد ايضا ان ننتج القوة اللازمة لمحاربة الاستكبار .. اذن نحن نعيش تناقضات ولا بد ان تكون طموحاتنا على قدر امكاناتنا.. النخبة التونسية رومانسية تفصل بين الطموح والوسائل وتعتقد انه يكفي ان تكون لديك ارادة سياسية وخطاب سياسي لتحقيق اهدافك وهذا لا يمكن.. النخب لا تستطيع ان تفكر بعقلانية..
صاحب “الخريف العربي” (عنوان كتابك) لا يعترف بالربيع العربي ..؟ حسب رأيك متى يحل الربيع الحقيقي؟
الخريف هو فصل العمل والبناء والزراعة.. لو اتقن كل عامل في تونس عمله لتحسنت جودة الحياة بشكل ملحوظ.. من مشاكلنا الكبرى اننا حين نخدم بعضنا البعض نخدم بسوء شديد وهذا المشكل لا تحسّنه لا السياسة ولا البرلمان ولا الرئيس .. مشكلتنا اننا ننتظر من السياسة ان تقدم اكثر مما تقدم ..البعض يرى ان الحل في حل البرلمان او في تغيير النظام .. هذا غير صحيح.. الوضع يتغير حين نعمل بجدية..