الشارع المغاربي: كريمة السعداوي يشهد منذ سنوات، مع بداية «نشاط» منظومة العصابات المالية زمن بن علي أواسط التسعينات، العديد من القطاعات الاقتصادية الحيوية والمنظومات التي تعمل لعقود طِوال، بشكل مُقنن على غرار البناء والأشغال العامة والفلاحة والصناعات الغذائية وتجارة التفصيل، تحديات كبرى لمواصلة أعمالها وترسيخ ديمومتها بعد ان أصبحت فريسة للفوضى والاحتكارات الكبرى والجشع الذي يلتهم كل مقدرات الاقتصاد الوطني، دون حدود.
بلغ الانفلات الكبير وتفشي الجريمة الاقتصادية على نحو أطاح على سبيل الذكر بأكثر من ثلاثين منظومة فلاحية، اقصى مداه مع ترسخ منظومة 2011 بأخطبوطها المترامي الاطراف، ووصلت قطاعات محورية اليوم الى مرحلة متقدمة من الانهيار مما جعل جل المنظمات المهنية والاطراف الفاعلة قطاعيا تطلق صيحات فزع متتالية خصوصا خلال الأسابيع الأخيرة بعد أن برزت بوادر فقدان مئات الآلاف من مواطن الشغل بما يهدد استمرارية المؤسسات ومقدرات الدولة.
فظاعة الإجرام الاقتصادي زار الرئيس قيس سعيد يوم 11 اوت الجاري مخزن تبريد للمواد الفلاحية بجهة طبربة من ولاية منوبة وعبر عن غضبه بشكل واضح من ممارسات التخزين والتجميع الاحتكاريين لمواد أساسية، ملوحا بالضرب بقوة على ايادي المضاربين والمتربصين بقوت التونسيين. وأتت الزيارة بعد تسجيل زيادات كبيرة خلال شهر جويلية في أسعار الخضر والغلال والأسماك حسب تقرير للمرصد الوطني للفلاحة تراوحت بين 3 و50 بالمائة مقابل تراجع لافت للتزويد بنسب ما بين 9 و82 بالمائة مما يحيل الى تفاقم الاحتكار والمضاربة وممارسة عمليات الوساطة غير القانونية علاوة على ضعف الرقابة.
في ذات السياق، أدى رئيس الجمهورية يوم الجمعة الفارط، زيارة إلى مقر إحدى شركات بيع مواد البناء بمنطقة فوشانة من ولاية بن عروس أين شدَّدَ على الصرامة في التعامل مع المحتكرين والمرفعين في الاسعار والمتلاعبين بقوت المواطنين معلنا، في هذا الصدد، عزل الوالي ليتم تعيين مسؤول مكانه يخدم الجهة عوضا عن المهربين، على حد تعبيره. وجاءت الزيارة في نفس اطار سابقتها الى مخزن الخضر، اذ عَرفت مؤخرا أسعار مواد البناء وبالأساس الحديد والخشب والبلاستيك التهابا غير مسبوق بحكم ارتفاع سعر الحديد بـ 26.5 بالمائة خلال الربع الأول من العام الحالي وذلك بحساب الانزلاق السنوي بالتوازي مع ارتفاع عدد مهم من مدخلات الانشاء والعقار بنحو34.4 بالمائة نهاية جويلية الفارط في حين سجل سعر الاسمنت زيادة بنسبة 100 بالمائة منذ جوان 2020. وأكّد في هذا الاطار، جمال الكسيبي رئيس الجامعة الوطنية لأشغال البناء والمقاولات أن وضعية قطاع البناء والتشييد حرجة لا فقط بسبب ارتفاع الأسعار بل وكذلك بسبب فقدان العديد من المستلزمات من السوق مشيرا الى أن منظومة التسعير وغياب المنافسة تحد من نجاعة القطاع خصوصا ان الدولة حاضرة بقوة على هذا المستوى مما يؤثر سلبا على تعديل القطاع معتبرا أن وجود شركة «الفولاذ»، حسب تقديره، أصبح عائقا أمام تزويد السوق بالحديد باعتبار مراكمتها للخسائر وعدم مردوديتها.
وللإشارة، فانه وفقا لبيانات وزارة المالية تناهز خسائر شركة «الفولاذ» سنة 2018 -وهي ابرز متدخل في قطاع الحديد والصلب – نحو 23 مليون دينار وباعتبار الخسائر المتراكمة فان رأس مال الشركة يعتبر سلبيا (- 226 مليون دينار ( علما ان ديون المؤسسة تصل الى 476 مليون دينار بمعنى انه حسب قانون الاجراءات الجماعية لسنة 2016 فانه على سلطة الاشراف اعادة جدولة ديون الشركة او تصفيتها في صورة عدم نجاح العملية خصوصا أن أعباءها عالية للغاية اذ تبلغ الأجور لوحدها 37 مليون دينار لـ 1046عامل بمعدل أجرة شهرية خام تساوي 2924 دينارا.
ويؤكد العديد من المهتمين بالشأن الاقتصادي الوطني، أن اعتماد منظومة تسعير ترجع الى عقود خلت تقوم على تحديد أسعار عدد ضئيل من المواد الاستهلاكية من قبل الدولة وتأطير أسعار حوالي 80 بالمائة من المنتجات مقابل تحرير أسعار المواد المصنفة ككماليات، أصبح غير صالح للتطبيق ومحفزا للاحتكار بحكم عجز مصالح الرقابة على الأشراف على عشرات الآلاف من نقاط البيع والمخازن إضافة إلى تحول القسم الأهم من المعاملات التجارية إلى القطاع الموازي ومجال الوفقات المتخصصة في التلاعب بالتموين والأسعار حيث يتحكم، على سبيل الذكر، في أسعار الخشب وفقا للمهنيين، 3 أشخاص من جهة الوطن القبلي يضبطون الاسعار كل يوم لدى احتسائهم قهوة الصباح !
الرقابة حل هيكلي للتجاوزات رفع جهاز المراقبة الاقتصادية بوزارة التجارة وتنمية الصادرات خلال النصف الأول من هذا العام، 35354 مخالفة اقتصادية إثر القيام بحوالي 225190 زيارة رقابية. وأظهرت معطيات الإدارة العامة للمنافسة والأسعار بالوزارة حسب (وات)، أن المخالفات المسجلة توزعت بين 7659 مخالفة في التجاوزات السعرية و20625 مخالفة تعلقت بشفافية ونزاهة المعاملات الى جانب رفع 924 مخالفة في التلاعب بالدعم و3850 مخالفة في آلات القيس و2296 مخالفة أخرى.
وعلى مستوى القطاعات المخالفة ابرزت البيانات الإحصائية انه تم تسجيل 14090 مخالفة في المنتوجات الفلاحية و9503 مخالفات في المواد الغذائية علاوة على رفع 3921 مخالفة في مجال المخابز والمطاعم والمقاهي و7840 مخالفة في المواد الصناعية المختلفة. غير أن القيام بأكثر من 220 الف زيارة تَفَقُّد وتسجيل عشرات الآلاف من المخالفات لم يفض في النهاية الا الى اقتراح جهاز المراقبة الاقتصادية 500 عقوبة في الغلق والمنع والتزود وسحب رخص وذلك حسب بيانات وزارة التجارة وهو ما يثير الانتباه ويبين مدى استفحال ضعف الجانب الرادع والافلات من العقاب الى حد الإهمال، ان جاز التوصيف، مع التنزيه الكامل للأجهزة الرقابية الحكومية من أية شبهة تواطؤ أو غض الطرف عن المخالفين وحفظ مخالفاتهم.
ووفقا لتأكيد عدة متخصصين في الشأن التجاري والانتاجي، فان الضعف الفادح للرقابة وتسليط العقوبات على مخالفي القانون هما أحديْ أبرز أسباب تدهور المنظومات القطاعية بفعل الفوضى السعرية والتموينية واستفحال النشاط العشوائي في مجالات حيوية عديدة أضافة الى ترك الحبل على الغارب للمنافسة غير الشريفة والسلوكات المدمرة خصوصا في ما يهم عمل الحرفيين والمؤسسات الصغرى والمتوسطة. ومن هنا وعلى أهمية تعهد رئاسة الجمهورية ببذل قصارى الجهد لتفكيك شبكات اجرامية معقدة فان اعادة النظر في الجوانب القانونية المنظمة للمنافسة والاسعار ُيمَثل عاملا أساسيا لِلَجْم الجشع والتلاعب بمصير قطاعات بأكملها تُشَغِّل مئات الآلاف من التونسيين وتوفر للدولة موارد جبائية كبرى تضمن بقاءها وديمومتها.
ومن المؤكد ان مراجعة احكام القانون عدد 64 لسنة 1991 المتعلّق بالمنافسة والأسعار الذي جاء لينظّم المعاملات الشفافة في السوق ومنع الاحتكار أصبحت ضرورية، اذ أن وجود الاف الرخص لممارسة انشطة اقتصادية وتواصل احتكار الدولة بالكامل قطاعات انتفى فيها سبب وجودها افرغ القانون من جوهره علما انه تم تنقيحه عدة مرات كان آخرها في سنة 2015 بصدور القانون عدد 36 لنفس السنة المتعلّق بإعـــادة تنظيم المنافسة والأسعار.
كما يُجمع الخبراء على ان القانون لم يحقق اهدافه في ما يتعلق بتطوير المنافسة في السوق للتحكّم في الأسعار وتطوير الإنتاج والجودة وحماية المستهلك وتوفير الخدمات وتحسينها وحماية حرية دخول السوق والمنافسة الفعلية.
ولا معنى اليوم لاستمرار تدخّل الدولة في بعض القطاعات بشكل محوري بحجة التعديل وذلك على سبيل المثال في النقل البري والحلفاء واللحوم والاتّصالات والصناعة وغيرها في ظل إمكانات محدودة وانعدام قدرتها على التطوير القطاعي بالقدر الكافي لأسباب سياسية واقتصادية واجتماعية عديدة.
ومن المفروض ان تتفرغ الدولة بهياكلها الرقابية لمجابهة الاحتكار سواء كان ذلك في القطاع العمومي او الخاص عند وجود تجاوزات عبر التأكّد في كل فرع نشاط اقتصادي من وجود احتكار من عدمه أو استعمال مفرط له أو من استعمال الممارسات المخلّة بالمنافسة في كلّ أشكالها كأشكال التواطؤ المختلفة مثل الاتّفاق على سعر البيع أو الشراء أو على مواد أولية أو على إغراق السوق بسلعة معيّنة أو الامتناع عن توفير مواد أوّلية أو الامتناع عن تزويد السوق أو الاتفاق في صفقات عمومية بهدف الهيمنة أو منع المنافسة في السوق أو استعمال النّفوذ في القطاع أو منع طرف ثالث من الدخول إلى السوق.
كما يتعين ايضا وضع سياسات عامة لمكافحة ظاهرة استغلال الاحتكار ومنع إنتاج وضعية احتكار بالاستيعاب أو الاندماج أو الاستحواذ (التركيز الاقتصادي الداخلي أو الخارجي) لأنّ الحرية في السوق لا يجب أن تؤدي إلى الهيمنة ولهذا السّبب من الواجب ان تراقب سلط المنافسة ذلك وتمنعه إذا كان سيؤدّي إلى الاحتكار كشراء مؤسّسة أو اندماج مؤسّستين أو أكثر ممّا ينتج عنه وضعية هيمنة وسيطرة على السوق بنفس الإنتاج أو بمنتوجات متكاملة وهي وضعيات موجودة على نطاق واسع في تونس مع منع استعمال قوة السوق واستغلالها وتوظيفها. وعموما يتميّز مناخ المنافسة في تونس بجملة من الخصائص تتلخّص اساسا في الأوضاع الاحتكارية بعدد كبير من القطاعات والاستغلال المفرط لوضعية الهيمنة ووجود قطاع عمومي احتكاري يتمتّع بحماية مفرطة أو مطلقة بتعلّة المصلحة العامة، ممّا يؤدّي إلى تدهور جودة الخدمات وتدنّي الفاعلية الاقتصادية اضافة الى منح امتيازات بتعلّة المصلحة أو الخدمات العامّة عادة ما تعيق التطوّر الاقتصادي ونجاعة توظيف الموارد وتضمن التشريع الاقتصادي وغيره لأحكام تعرقل المنافسة وسهولة دخول السّوق. وتمنع هذه العوامل وغيرها توفّر المنافسة الحقيقية وهو السبب الرئيسي لتدنّي التنافسية وتدهور جودة المنتجات وتراجع الاستثمار وارتفاع نسبة التضخّم في البلاد.
*نشر في أسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة يوم 24 أوت 2021