الشارع المغاربي: تزايدت مؤشّرات حالة العطالة التي تشهدها الدولة التونسيّة خلال الفترة الأخيرة. فالأزمات المتراكمة سياسيّا واقتصاديّا واجتماعيّا آخذة في التصعيد والتعقيد. في المقابل يغيب الحدّ الأدنى من مؤشرات الانفراج، وهو ما يدفع بعض النخب السياسيّة إلى التوجّس من مضيّ الرئيس قيس سعيّد في فرض مشروع قد لا يخلّ فقط بخارطة الطريق التي حدّدها، بل ينسف كليّا المكتسبات…
من الأهميّة الإشارة إلى أنّ رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد كان قد استبق الذكرى العاشرة لانطلاق الثورة ليُعلن بتاريخ 13 ديسمبر 2021، وبعد ضغوط متعدّدة من الداخل والخارج، عن «خارطة طريق» سياسيّة طالما سخِر من المطالبين بها. ولوضع حدّ للعمل بالتدابير الاستثنائيّة التي منح لنفسه بمقتضاها صلاحيّات مطلقة وأخرج النظام السياسي التونسي من دائرة الممارسة الديمقراطيّة التي كانت قائمة، ولو شكليّا، حدّد رئيس الدولة رزنامة المحطّات السياسيّة والانتخابيّة المقبلة. وهكذا انطلقت في شهر جانفي 2022 عمليّا استشارة إلكترونيّة تتواصل إلى غاية 20 مارس 2022 تزامنا مع الاحتفال بذكرى الاستقلال. وفي الآن نفسه الإعلان عن اعتزام تشكيل لجنة خبراء للنظر في نتائج ما سُمّي بـ»الاستفتاء الشعبي الإلكتروني». ومن ثمّة تقوم تلك اللجنة «الرئاسيّة» بإعداد مشروع الإصلاحات الدستوريّة المرتقبة، على أن يُعرض هذا المشروع على الاستفتاء الشعبي بتاريخ 25 جويلية 2022 تزامنا مع عيد الجمهوريّة. وذلك في انتظار تنظيم انتخابات تشريعيّة سابقة لأوانها بتاريخ 17 ديسمبر 2022، وفق قانون انتخابي جديد.
والمعلوم أنّ العديد من النخب السياسيّة المنتقدة بشدّة لسياسات رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد كانت قد عارضت خارطة الطريق هذه نظرا إلى اعتبارات مختلفة. وبالنظر إلى الصلاحيّات المطلقة التي منحها رئيس الجمهوريّة لنفسه بمقتضى الأمر عدد 117 المؤرّخ في 22 سبتمبر 2021 وجعل رئيسة الحكومة منزوعة الصلاحيّات تقريبا ولم يسمح بأيّ إمكانيّة للطعن في قراراته، فإنّ هناك توجسّا حقيقيّا بشأن احتمال عدم الالتزام بهذه الخارطة/الرزنامة أو على الأقلّ توظيفها لإقامة مشروع شخصي قد يُطيح لسنوات قادمة بالديمقراطيّة الوحيدة في المنطقتين المغاربيّة والعربيّة…
تصنيف الأنصار والخصوم
يمضي أنصار الرئيس قيس سعيّد في الدفاع عن كافّة خياراته والتحمّس المفرط لمختلف قراراته، ليُبدي الكثير منهم انتقادات لاذعة إلى خصومه تصل إلى حدّ الشيطنة والتخوين حيال كلّ منْ يجرؤ على نقد النهج السياسي لرئيس الجمهوريّة، ولو تعلّق الأمر بإبطال عمل كلّ مؤسّسات الدولة ومحاولة فسخ التاريخ وإعادة كتابته بجرّة قلم وقفزة فكرة طائشة، مثلما حدث بشأن تغيير تاريخ عيد الثورة، دون أدنى استشارة أو اعتبار لما يُخالج مئات الآلاف من التونسيّات والتونسيّين…
في المقابل، يمكن تصنيف معارضي رئيس الجمهوريّة أيضا إلى صنفين: يتمثّل الصنف الأوّل في من كان يتربّع على منظومة ما قبل 25 جويلية 2021، ممثّلين أساسًا في حركة النهضة ومختلف أتباعها وحلفائها سواء من الأحزاب أو الأشخاص ضمن ما يُعرف بحراك «مواطنون ضدّ الانقلاب». وفضلا عن المكابرة في رفض القيام بالحدّ الأدنى من المراجعات الضروريّة، حاول هؤلاء كلّ ما في وسعهم من ضغوط داخليّة وخارجيّة لفرض العودة إلى ما قبل 25 جويلية. وهو ما فشلوا فيه فشلا مطلقا، فقد أبدوا إلى حدّ الآن عجزا بيِّنًا في استيعاب حقيقة أنّ حركة التاريخ يصعب أن تعود إلى الوراء. ويعود ذلك لا فقط إلى قبول القوى الدوليّة بالأمر الواقع الحاصل في تونس، دون مبالاة بمصالح من «التمسوا دعمها» للتدخّل في الشأن التونسي، بل خصوصا إلى أنّ ثقة معظم التونسيّين اهتزّت وتهاوت كليّا في من يتحمّل المسؤوليّة الأولى لحصيلة عشر سنوات من اختراق مؤسّسات الدولة وارتهانها وتدمير البلاد اقتصاديّا واجتماعيّا باسم الهويّة والتمكين دولة الغنيمة. أمّا الصنف الثاني من معارضي رئيس الجمهوريّة، فيكمن خصوصا في منْ ساند في البداية قرارات 25 جويلية بصوتٍ عالٍ، ثمّ عدّل بوصلته قبل أن يتراجع كليّا ويتحوّل إلى خصم لدود لخيارات الرئيس قيس سعيّد.
ولا يخفى أنّ النخب المتمسّكة بالخيار الديمقراطي، سواء كانت نخبًا سياسيّة متحزّبة أو مدنيّة مستقلّة لا يمكنها منطقيّا وسياسيّا وعمليّا مساندة أيّ مشروع أو حتّى مجرّد قرار سياسي إلّا بشكل مشروط يضمن عدم الانحراف عن المبادئ الحقوقيّة والمرجعيّات السياسيّة الديمقراطيّة التي تتبنّاها وتدافع عنها. وهو ما يتنافى كليّا طبعًا مع الخطّ السياسي للجماعات الدينيّة التي تُلزم أتباعها ومريديها بـ»الطاعة» العمياء لمرشدها أو شيخها أو أميرها. والحال ذاته تقريبا بالنسبة إلى التنظيمات الحزبيّة المنغلقة القائمة على مرجعيّات شموليّة تجعل من أنصارها مجرّد قطيع لا يرفع صوته إلّا بالموافقة على خياراتها.
لا نقف هنا طبعًا عند جموع السياسيّين الباحثين عن الشهرة الوهميّة المؤقّتة سواء من مساندي رئيس الجمهوريّة أو معارضيه الذين عوضًا عن التركيز على البدائل والنقد الوجيه للسياسات والقرارات يمكثون في الشتم والسباب والتضخيم واختلاق الأكاذيب وترويج الإشاعات، وما إلى ذلك من توصيفات أو ممارسات لا تتماشى إلّا مع تيّار التفاهة المنتشر في شبكات الميديا الاجتماعيّة…
مؤشّرات وتخوّفات
مؤشرات عدّة تُنبئ بتعثّر خارطة طريق الرئيس قيس سعيّد، وفي مقدّمتها الفشل المعلن للاستشارة الإلكترونيّة التي كان رئيس الجمهوريّة قد سمّاها بـ»استفتاء شعبي إلكتروني». فمن الواضح أنّ التونسيّين لم يتفاعلوا لا مع هذه الاستشارة الرقميّة ولا مع ما ارتبط بها من «استفتاءات مباشرة على الدستور في أنحاء البلاد وفي الخارج». وفي ظلّ فقدان الثقة السائد في السياسة والسياسيّين يبدو أنّ الهمّ الأكبر للتونسيّين اليوم ينحصر في حلّ مشاكل حياتهم اليوميّة، في ظلّ حالة الاختناق التي تشوب الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة، فضلا عن تراجع المقدرة الشرائيّة للطبقات المتوسّطة والفقيرة أمام تصاعد سطوة لوبيّات الاحتكار والتهريب.
وليس جديدا التصريح بأنّ لا شيء تغيّر بشأن ما تعهّد به رئيس الجمهوريّة بخصوص مكافحة الفساد وملاحقة الفاسدين. كما لم تشهد البلاد إلى حدّ الآن أيّة محاسبة جديّة لمن وصفهم رئيس الجمهوريّة مرارا بأنّهم «كانوا يتاجرون بآلام الشعب التونسي في السنوات الماضية».
ولا ريب في أنّ انشغال معظم التونسيّين اليوم بنفاد العديد من المواد الاستهلاكيّة الأساسيّة يفوق اهتمامهم بتلك الاستشارات والمحطّات السياسيّة التي أقرّها رئيس الدولة بشكل أحادي مسقط. وهو ما يدلّ على استمرار غياب الوعي بأهميّة اعتماد مقاربة تشاركيّة كفيلة بطرح مبادرات لحلّ المشاكل العالقة تكون قابلة للتمرير والترويج… وسوى ذلك فإنّ اهتمامات الجموع اليوم تكاد تنحصر في متابعة المباريات الرياضيّة وتغذية الإشاعات المتعلّقة بالحرب في أوكرانيا وما تلاها من تهافت على السلع وتخوّف من فقدانها على أبواب شهر رمضان…
وخلافا لما اعتاد رئيس الجمهوريّة على نفيه مرارا وتكرارا، فإنّ ما بدا عمليّا من توق واضح إلى تجميع كلّ السلطات هو الذي دفع بعض السياسيّين البارزين إلى التشكيك في التزام الرئيس قيس سعيّد بالرزنامة المعلنة.
مخاطر محتملة
من أبرز الإشكالات القائمة في المشهد السياسي اليوم أنّ لا صوت يعلو إلّا صوت الرئيس الذي يبدو أنّه لا يزال مقرًّا العزم على مواصلة الاكتفاء بالإنصات لصدى صوته الجهوري. وهو ما يعني استمرار الغموض السائد في أداء رئيس الجمهوريّة إزاء خياراته للمحطّات السياسيّة المقبلة، حتّى أنّ أبسط متابع يقتنع بأنّ الغموض يُعدُّ هدفا في حدّ ذاته للتغطية على جوانب لا يُراد كشفها، على غرار المشروع السياسي الحقيقي الذي يرغب الرئيس سعيّد في إرسائه. وهو ما يُغذّي مخاوف مشروعة لدى الطبقة السياسيّة في البلاد التي قذف الرئيس قيس سعيّد بها في السلّة نفسها.
نبيل حجّي مثلا، وهو نائب بالبرلمان الذي أطاح به سعيّد، اعتبر أنّ رئيس الجمهورية لا ينوي تنظيم انتخابات بعد أن جمع كلّ السلطات بين يديه. وذهب، في حوار مع إذاعة «شمس آف.آم»، إلى أنّ البرنامج السياسي لقيس سعيد لن يخرج إمّا عن تمكين وزارة الداخليّة من تنظيم الانتخابات المرتقبة بما يعني تزويرها أو إلغاء الانتخابات تماما أو إصدار قانون انتخابي لحرمان الأحزاب البرلمانيّة من المشاركة، مشيرا إلى أنّ قانون الماليّة لسنة 2022 لم يتضمّن ميزانيّة خاصّة بالانتخابات. معلوم طبعًا أنّ هذا النائب لا يمكن أن يمتدح سياسات رئيس الجمهوريّة باعتباره من بين معارضيه. كما أنّ ميزانيّة الدولة جرى إعدادها قبل طرح الرئيس سعيّد لرزنامته السياسيّة، ولكن لا شيء يمنع النائب المذكور من استشراف ما قد يطرأ من أحداث. ولعلّه من طبيعة الأمور في كافّة الدول الديمقراطيّة أن تُمارس المعارضة دورها في الضغط المشروع على السلطة التنفيذيّة من أجل إلزامها باحترام تعهّداتها والإيفاء بوعودها.
ومع ذلك فإنّ نبيل حجّي قد نبّه إلى احتمال ارتكاب رئيس الجمهوريّة ممارسات تضرب الديمقراطيّة في العمق، على غرار تمكين وزارة الداخليّة من الإشراف على تنظيم الانتخابات، علاوة على إفراغ المشهد الانتخابي من أهمّ الفاعلين فيه. ففي حال حصل ذلك فإنّه يعني أنّ البلاد، تحت إمرة الرئيس قيس سعيّد، قد تسير بخطى ثابتة نحو توطيد نظام استبدادي لا صلة له إطلاقا بالديمقراطيّة. وهو ما ينبغي التصريح به اليوم قبل أن يُمنع غدا في حال سقطت البلاد ولو لفترة قصيرة في وحل سلطة شموليّة لا تؤمن بالاختلاف والتعدّديّة. فالرئيس قيس سعيّد نفسه لم يصل إلى قصر رئاسة الجمهوريّة بقرطاج عبر رحلة مكوكيّة طافت به كوكبي القمر والمريخ، بل صعد إلى منصبه الحالي عبر انتخابات رئاسيّة نظّمتها الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات، لا وزارة الداخليّة.
فهل أنّ البلاد مقبلة حقّا على انفراج سياسي فعلي، في حال التزم الرئيس سعيّد بخارطة الطريق التي طرحها ولم يُفرغها من مضامينها الديمقراطيّة؟. أمّا إذا نزع بشكل انفرادي إلى فرض تلك المشاريع السياسيّة الهلاميّة التي لا تُحيل إلّا إلى شكل جديد من الاستبداد، فإنّه قد يتقمّص حينها دور «الأخ الأكبر»، كما ورد في رواية «1984» للكاتب الإنجليزي جورج أورويل، حيث لا صوت إلّا للحاكم الشمولي الذي يراقب الجميع، وصاحب السلطة الأوحد الذي يتسبّب في تحويل المجتمع إلى مجرّد مسوخ متناحرة من السياسيّين والرعايا. سيناريو مرعب لكنّه محتمل للأسف الشديد، رغم أنّه لن يُشكّل في حالة حصوله إلّا محطّة عابرة تتناثر كالزبد أمام أوّل غضبة شعبيّة كبرى مثل سابقاتها وسابقيه.
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 1 مارس 2022