الشارع المغاربي:
1/ في مؤسّسات سبرِ الآراء:
الأصل في عمل هذه المؤسسات هو تحصيل المعرفة باستنطاق الجماعات والشعوب وسبر آرائها ومواقفها وخياراتها. والمعرفة الحاصلة من ذلك هي في الأصل معرفة محايدة حياد السبل إليها وحياد ألأرقام المستخلصة.فعَمَلُ سبر الآراء هو في وَجهِهِ السليم عمل وصفيّ علميّ خالص، منفصل عن وعي من تُرضِيهم الأرقام المُحصّلة ومَن لا ترضيهم.
ولمّا كان سبر الآراء والنوايا والمواقف محمولا على الحياد والعِلمية، وضعت له الدولُ التي تُجِلُّ المعرفةَ ضوابطَ قانونية تنظّم أعمال المؤسسات المعنية به. وإنّ الدافع إلى ذلك التقنين هو الحرص على أن تصف عملياتُ السبر والإستبيان الوعيَ والمزاج والرأي والموقف داخل الشعوب المجموعات. وتكون الحصيلةُ معرفةً يتلقّاها مَن يشغله أمرُها فيستأنسَ بها ومن لا يشغله.
ثم إن ضبط هذا النشاط بقانون يأتي من احتمال الإنحراف عن تحصيل الحقيقة الواقعة إلى”الحقيقة” الزائفة، فينقلبَ عملُ سبر الآراء عن استبيان الوعي إلى توجيهه. ذلك أن الدراسات الجادة في هذا الشأن توصلت إلى أنّ المزاج العام التلقائي يميل إلى ما تُعلِي الأرقامُ من المواقف والخيارات والأطراف، ويميل إلى حيث تميل الأغلبية.
وفي زمن الديمقراطية التونسية الرثة العرجاء، أو الديمقراطية الأحادية، ظهرت مؤسّسات سبر الآراء ظهورا فوضويا منفلتا، طليقا من كل ضبط قانوني. وظهرت أعمالها موصولةً بذلك. فهي غالبا ما لا تصف حاصلا واقعا وإنما تسقط حاصلا من عندها. وقد يعترض على هذا القول المعترضون، لأنه لا يقوم على دليل، ولأن بعض أعمال سبر الآراء المتعلقة بنوايا التصويت مثلا قد أثبتَت قربَها من الحقيقة النتائجُ الإنتخابية، ولأنّ بعضها الآخر يلائم أفقَ التوقع لدى العموم. لكنّ الردّ على هذه الإعتراضات يكمن في لعبة الأرقام وفي سياق تنزيلها وفي انتقائية الشأن المشتقة منه. وتلك هي لعبة الورقوني بالأرقام.
2/ الزرقوني أرقام:
تبدو أرقام الزرقوني وجيهةً عاكسةً المزاج الشعبي العام كلّما كان موضوع الإستبيان لا نفع فيه بصفة مباشرة لأية جهة سياسية أو مالية ولا ضرر. من ذلك سبر الرأي العام التونسي في مقادير الأمل واليأس، والسعادة والتعاسة، ومدى سلامة الإتجاه العام الذي يسير فيه الشأن العام إلخ.. ففي هذه المواضيع يُظهر الزرقوني منطوقَ الأرقام إظهارا صحيحا، ملائما لأفق التوقع لدى العموم، سواء بمعيار الخبرة أو بمعيار الحدس.
وتصحّ أرقام الزرقوتي المتعلقة بالشأن الإنتخابي ونوايا التصويت ومقادير الثقة في هذا السياسي أو ذاك في أحوال محددة سلفا. من ذلك سبر نوايا الإنتخاب مباشرة قبل موعد التصويت وأثناءه. وفي الحالين تكون أرقام الزرقوني قريبة من الحقيقة لأنها مقبلة على محك الإختبار. وبهذه الوجاهة في أرقامه وتلك، تُحظى مؤسسته بالثقة التي بها يمارس لعبته. ففي المراحل البعيدة عن مواعيد الإنتخاب، تسبق إليها أرقام الزرقوني بخدمة الجهة التي بريد. وإن الجهة التي تُعلي من شأنها أرقامُ الزرقوني هي دوما الجهة الماسك للسلطة أو الحائزة على المال. وبهذه المناصرة التي ليس بعدها اختبار مباشر يضعها على المحك، يخدم الزرقوني الجهة الحاكمة أو الثرية بأرقامه التي يوجّه بها لفائدتها الرأيَ العام والوعيَ الجمعي. فطيلة حكم “التوافق” بين الإخوان والنداء، بُعيد انتخابات 2014، كانت أرقام الزرقوني تداول بينهما تشريعيا على المرتبتين الأولى والثانية مداولةً ترضي الجميع ولا تغضب الجميع. وعلى أيام الشاهد رئيسا للحكومة، كانت أرقام الزرقوني تضعه في السباق الرئاسي في الصدارة. ولمّا ظهر نبيل القروي منافسا، صار الزرقوني يداولهما على الصدارة.
وفي فترة ما قبل انتخابات 2018 البلدية التي ارتدى يوسف الشاهد، أثناء إعداد قائماتها الزّيّ”الندائيّ”، أصرّت أرقام الزرقوني على أن تجعل النداء والإخوان مراوحة بين المرتبتين الأولى والثانية، ولم تضع “للمستقلين” شأنا يذكر. وأفصخت لاحقا النتائج التشريعية والرئاسية والبلدية بخلاف ما أفادت أرقام الزرقوني واكتسح المستقلة المنافسة . وبهذه اللعبة يخدم في الوقت الملائم من يخدم، بعيدا عن مواعيد الإختبار. و بِحَقٍّ يُراد به باطل حين تَذرُو رياحُ النتائج لاحقا أرقامه، يتعلل، فعليا أو ضمنيا، بأن لِلحظةالإقتراع مستجدات لم تكن أثناء لحظة الإستبيان.
3/ الزرقوني أفلام:
بعد 25 جويلية 2021 صارت بين يدي قيس سعيد أذرُعُ السلطة ورقاب الدولة. ولم يتأخر الزرقوني عن خدمته بأرقام خيالية كالأفلام، سواء بصفة مباشرة أو من خلال “استنقاص” خصومه.
أ/ قيس سعيد:
من فترة 25جويلية 2021 إلى فترة ديسمبر 2022، موعد الدّور الأول من”الإنتخابات التشريعية” التي أعرض عنها العمومُ، استمر سعيد حائزا في شاشة الزرقوني على ما بين 80% و90% من مقادير الثقة ونوايا التصويت. ولما تراكمت في الأثناء أخطاؤه، تدحرجت النسبة إلى 60%. والغريب أن هذه النسبة يرافقها في السّبر نفسه ما بيانه أن 84% حكموا على الوضع، المسؤول عنه سعيد وحده، بأنه سيء وسيء جدا. وحكم 61% بكون البلاد في الطريق الخاطئ، مقابل 12,1% حكموا على الوضع بكونه مرضيا. فلئن لم يقدر الزربوني على أن يغطّيَ الإحباط العام بغربال أرقامه، فقد حاول أن ينتشل منه سعيد.فكيف يُحظى سعيد بثقة أكثر من 60%، وهو المسؤول عن وضع أجمع على سُوئِه 84%!!. فمنطوق الأرقام على هذا النحو هو منطوق أفلام مركبة.
وفي سبر فيفري 2023 قالت أرقام الزرقوني إن نوايا التصويت لصالح سعيد هي بنسبة 49,9%، والحال أن هذا السّبر جاء بعد انتخابات تختزل سعيد ومساره أعرض عنها وعن الداعي بها إلى مشروعه نحو 90% من الناخبين. والملاحظة أن هذه النسبة التي تلامس النصف، إنما يوحي بها الزرقوني إلى أن ماسك السلطة هو على مشارف الفوز بالرئاسة من الدور الأول. وزاد في هذا الإيهام بأن جعل بينه وبين الموالين له في الترتيب هوة شاسعة.فنسبهم تباعا 10,3%و 5,9% و4,6%.
ب/عبير موسي:
بعد 25 جويلية لم تتخل عبير موسي عن صفة الخصم الصلب للإخوان. وصارت في الآن نفسه خصما صلبا لسعيد، لا بل الخصم الوحيد الذي يمثل له الثّقلَ السياسيَّ المُضادَّ. فكان لا بد أن يناصر الزرقوني بِسِنِمَا أرقامه الحاكمَ سعيد وأن يخاصم به مَن يخاصمه. ففي سبر ماي 2022 على سبيل المثال، قالت أفلام الزرقوني إنّ نوايا التصويت في التشريعية لفائدة الحزب الدستوري الحر هي بنسبة 29,9% ولفائدة حزب”قيس سعيد”بنسبة 26,2%، ولفائدة” النهضة” بنسبة 8,7% ولفائدة حركة الشعب بنسبة 4,9%. وها هنا يظهر تلاعبُ الزرقوني بشاشة الأرقام. فهو يعلم ألّا أحد يصدّق أرقامَه لو لَم يضع في الصدارة الحزب الدستوري الحر. لكن إصراره على عادة خدمة ذي السلطة أو المال، دفعه إلى أن يحاصر الرقمَ الذي لفائدة الدستوري الحر برقم مجاور له لفائدة “حزب قيس سعيد” وبرقم هزيل في المرتبة الثانية في الرئاسية يخص رئيسة الدستوري الحر لا يتعدى9,8%. فبذلك”عادلت” شاشة الزرقوني برقمَيْ سعيد الأول و”حزبه” الثاني رقمَيْ عبير الثانية وحزبها الأول. وأخل في”التعديل”بفارق طفيف لصالح حزب عبير مقابل”حزب” سعيد، وبفارق عريض لصالح سعيد مقابل عبير. وزاد في “التضييق”على حزب عبير بأن جعل نسبته وهي 29,9% أقل من نسبة”حزب سعيد” وحليفه”حركة الشعب”مجتمعَين بما مجموعه1,31. ثم إن “حزب سعيد”، وهو استنساخ” لحزب نبيل قروي”، لا جود له في الواقع أو في أذهان العينات المُفتَرَضُ استجوابُها. إنما إدراج هذا الحزب الذي كخيال الظل قد استحضره السؤال الموجّه توجيها مدروسا متعمدا.
و قد يبرّر الزرقوتي أفلامه بأنّ المزاج الإنتخابي الرئاسي في العُرف التونسي يختلف عن المزاج الإنتخابي التشريعي. وإذا سلمنا بهذا التبرير على مضض، فلماذا يختلف هذا المزاج في شأن عبير موسي وحزبها، على عسر الفصل بينهما، ولا يختلف في شأن سعيد و”حزبه”!!!. أليست هذه أفلام!.
وأوغل الزرقوني بأفلامه في سبر فيفري الحالي. تقول شاشته إن نوايا التصويت الرئاسية هي لصالح سعيد بنسبة 49,9 والصافي سعيد بنسبة10,3% وكادوريم بنسبة5,9% وعبير موسي بنسبة4,6%. فهذه الأرقام جعلتنا نشك في أننا في أرض تونس وبين شعبها ، رغم أننا لم تغارهما قط منذ سنة 1980. فهذا الجدول هو أولا خدمة الزرقوني المعتادة لمن يده على الحكم. فقد نزل به عن تلك الأرقام العليا السابقة لعلمه ألا أحد يصدّقه فيها. لكنه حباه سعيد فعاند الحقائق عنادا ساذجا هذه المرة.لأن 49% لصالح سعيد ينسخها نحو90% من المعرضين عن مشروعه الإنتخابي. وحباه أيضا بمزيتَين. الأولى هي الفجوة العريضة التي بينه وبين مُلاحقِيه الذين، باستثتاء عبير موسي، من الهوامش. والثانية هي وضع منافِسته الفعلية الوحيدة ،عبير، بعد الهامِشِيَين الذَين لا شأن لنا مع شخصيهما. فهل يقبَل مَن يملك عشر عقل أن يتقدم هذا المُغنّي أو الذي قبله على عبير موسي؟! . فهل سلم التونسيون باحتمال أن يصبح قصر قرطاج مَرقصا!!!
* نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 14 فيفري 2023