الشارع المغاربي: استقر اليوم أنّ إطار الإيقافات الأخيرة التي قد تنضاف إليها أخريات هو”المحاسبة”. استقر ذلك في الخطاب الرسمي،و في بعض الوعي الشعبي المُنصِتِ حصريا لذلك الخطاب. ولهذه المحاسبة جانب قانوني أكيد، لأنها موضوع يَنظرُ فيه القضاءُ. إلا أنّ ملفات التهم ليست كلها ملفات قضايا حق عام، وليس كذلك تكييفُها. فعنوانها الجامع، وفق الجهة الرسمية المحركة للقضايا، هو” التآمر على أمن الدولة”. وبهذا العنوان تخرج القضايا عن النطاق القانوني الخالص، لتتعلق بالأمن العام تعلقا يجعلها شأنا عاما يُحظى بالتفاعل الشعبي. وإن الراشح إلى حد الآن من هذا التفاعل ومن سير التحقيق والإجراءات يجتمع عليه جانبان اثنان، وهما المساندة الشعبية التلقائية القائمة على مساندة المحاسبة (1)، والضبابية القانونية التي تلازم ذلك التحقيق وتلك الإجراءات (2) .
1/المساندة الشعبية:
للإيقافات الأخيرة مساندة شعبية لا تنكر. وتأتي المساندة من الرغبة الشعبية في محاسبة من عبثوا بالدولة والمجتمع طيلة اثنتي عشرة سنة. لكن هذه المساندة الشعبية ليست على نحو واحد. فقد تبلور اليوم بقدر من التمايز نوعان منها، المساندة الإتباعية( ا) والمساندة النقدية(ب).
أ/المساندة الإتباعية:
يمثّل هذه المساندةَ عمومُ الوعي الشعبي الذي أدرك، بحدس ومعاينة يوميَين، أنّ عشرية الحكم الإخواني وما تلاها قد أرهقت قدرته الشرائية، وبدّدت أحلام ابنائه، وعصفت بأمنه، وبشّعت صورة توتس ومواطنيها. فهذا الوعي الشعبي المحكوم بالإندفاع والتلقائية، قد توجّه إليه الخطاب الرسمي بما يفيد أن تلك الإيقافات هي من صميم المحاسبة التي سيخضع إليها صناعُ تلك المتاعب. وتبدو هذه المساندة أقرب ما تكون إلى ما أراد لها الخطابُ الرسمي أن تكون. فهي مساندة انفعالية، سطحية، ثأرية، لا بل انتقامية أحيانا إلى حدّ التشفي، خالية من الفرز بين مَن تحقّ عليهم المحاسبة التي تتهيأ لهم ، ومن تحق عليهم ولا تتهيأ لهم.
وإنّ الخطاب الرئاسي، خطابا رسميا وحيدا باسم السلطة والنيابة والقضاء، قد وسّع مِن دائرة هذه المساندة الشعبية “الثأرية”. وهو خطاب احتكر النطقَ باسم الشعب، وباسم الثأر له من “أعدائه”، و”ناهبي أمواله”و”محتكري قوته” و”المتآمرين على دولته”. فهو خطاب تقسيم يفصل”شعبا عن الشعب”و “شعبا عن أعداء الشعب”.
لا جدال في أن مساندةَ المحاسبةِ الشعبيةَ محمودةٌ. ولا جدال في أنّ مِن حقّ السلطة الرسمية أن تستحسنها وأن تستقويَ بها. لكن السلطة هي اليوم بصدد توجيه المحاسبة إلى حيث تريد، إذْ أرادتها غطاءً للمداهمات الليلية غير المتقيدة دوما بسلامة الإجراءات، وتداركا على شعبيةٍ لرأسها تضاءلت.
إنّ المساندة لِما يراه الوعي الشعبي محاسبةً قد انتزع منها الخطاب الرسمي أصالتَها،فلوَّنَها بروح انتقامية تصفّق لكل إيقاف جديد، ولا ترى فيه خلاف ذلك. وهذا التصفيق الإنتقامي يقبل التّفهم في نطاقه الشعبي العفوي. فالدوافع القهرية إليه قد تراكمت طيلة ما يفوق العقد من الزمن. والشرائح المأخوذة بهذه المساندة الحماسية الإنتقامية هي التي دفعت الضريبة الأليمة لسنوات من فساد الفاسدين، ونهب الناهبين، ورشاوى المرتشين، ومازالت تدفع.
لكن الخطاب الرسمي نَفَخ في تلك الروح الإنتقامية التي لا تحقق عدالة يكون بعدها استقرار. ولم يجنح بها إلى ما به تتوازن فيلتئمَ نسيج المواطنة بعلوية القانون ، بعيدا عن التقسيم والتحريض والتشنّج وزرع الفرقة والحقد والثأرية العمياء.
ب/المساندة النقدية:
تمثل هذه المساندةَ الشرائحُ المتبصرة الخارجة عن الأنفار الذين تعودت مؤخراتهم على كل المقاعد، وأيديهم على كل الموائد، وافواههم على كل الأطعمة.
لكن الفئات التي ليس منها أولئك الأنفار، إنما تساند المحاسبةَ مساندةً متبصرة مستنيرة فيها قَدر من الروح النقدية المتماسكة. فهي مساندة لا تفصل الحق المجتمعي في المحاسبة عن علوية القانون، وعن سلامة الإجراءات. فليس قانون الإرهاب بصكٍّ على بياض تجوز به كلُّ الخروقات الشكلية في كل الحالات.
ولا تَغفل هذه المساندة الشعبية النقدية التي تظهر أصداؤها في مختلف وسائل الإعلام والإتصال عن طابع هذه المحاسبة الإنتقائي من ناحيتين اثنتين. الناحية الأولى هي أن المتّهمين الموقوفين قد وُضِعُوا في سلة اتّهام واحدة، وتحت عنوان واحد كما سنرى لاحقا، والحال أن موازين اتهامهم تتفاوت. وليس ذلك بناء على أقوال الدفاع وعلى ما تسرب فحسب، وإنما كذلك بناء على التهم التي أطلقها رأسُ السلطة نفسه سواء اليوم أو في السابق، والتي تتعلق بأشخاص هم اليوم أحرار وبكيانات يُحظى نشاطُها بالحماية.
والناحية الثانية أن المحاسبة، كما تراها هذه المساندة النقدية، لا يجب أن تقتصر على متآمري اليوم وأن تغفل عن متآمري الأمس، أو أن تغفل عن التآمر غير المباشر والأخطر، والذي يخص كيانات منتظمة.
كما لا تغفل هذه المساندة النقدية عن وجوب ألاّ تكون شاغلا للشعب والرأي العام عن مشاغل البلاد الأخرى. ذلك أنّ المحاسبة، وفق هذه المساندة، شأن قانوني أولا، وشأن عام ثانيا. وليس كونه شأنا عاما بمبرر لإغناءِ السلطة عن واجباتها تجاه المواطنين وأمنهم ومعاشهم ومصير أبنائهم. فهؤلاء، شبابا ، هم اليوم فارّون من وطنهم بالفعل وبالقوة. إنّ مغزى المحاسبة وفق هذه المساندة هو أن تزرع الأمل بالعدالة لا الحقد بالإنتقام.
-2 الضبابية القانونية :
لهذه الضبابية القانونية وجهان متلازمان لدى الجهة الرسمية ؛ المظاهر (أ) والاهداف (ب) من جهة الحيثيات ومن جهة الاجراءات وعلاقتهما بالخطاب الرسمي الذي يمثل في الإيقافات الجهة المحركة للدعوى .
أ / مظاهر الضبابية القانونية:
من هذه المظاهر أربعة الأقل .أما المظهر الأول فهو تنوع التهم وانفصال بعضها عن بعض ، في حين أنّ حملة الاعتقالات واحدة ، وعنوان التهم واحد ، وهو التآمر على أمن الدولة. وعلى ذلك يستوي الاعتقاد المبرّر أن بين المتّهَمين جامعا ضبابيا آخر بخلاف الجامع الجنائي المفتعل. وأما المظهر الثاني فهو ضبابية الموجبات التي بها تجري الإحالات في حالة سراح وحالة إيقاف وحالة إيقاف تتبعه بطاقة إيداع. فالتآمر على أمن الدولة سبق أن وجّهَه سعيد مرارا للغنوشي ، بصبغة النكرة المقصودة ،و هو اليوم في حالة سراح ، وبخلاف “المتآمرين الجدد”. ثم إنّ مِن المتّهمين اليوم مَن توجّهت اليهم سابقا التهمةُ نفسُها. فكيف نفهم أنّ شروط اعتقالهم لم تتوفر إلا اليوم، بمعية متهمين آخرين تنوّعت تُهمُهم بين التآمر واختلاس الاموال والاحتكار والمناوءة الإعلامية للسلطة الخ … وإذا كان ذلك من مقتضيات السير القانوني ، أليس الأولى أن تفصِل الجهةُ الرّافعة للدعوى بين التّهم والمنهمين ، لا سيما أنّ مِن القضايا الجارية السابقة المتعلقة ببعض المتهمين قضايا إرهاب واغتيالات وتسفير للارهابيين .
وأما المظهر الثالث من الضبابية القانونية فهو عدم التلاؤم بين ملفات التّهم من جهة ونصوص الإحالة من جهة ثانية . فبعض التهم إرهابية ، والإحالة فيها على مقتضى الفصل 43 من القانون الاساسي عدد 26 لسنة 2015 المتعلق بمكافحة الإرهاب وغسيل الأموال . وبعض التّهم جنائية والإحالة فيها على مقتضى الفصول 49 و51 و55 من المجلة الجزائية . فأين يظهر الجامع بينها وهو التآمر على امن الدولة”؟ أليس السؤال جديرا بالجواب في حدود ما يسمح به سير الأبحاث؟ وهل بين التهمة
الجنائية والتهمة الإرهابية مشترك أكيد مهما كانت التّهم وهو “التآمر على أمن الدولة “؟. وعلَيهِ، هل مِن مشترك آخر في نفس يعقوب!
وأما المظهر الرابع من الضبابية القانونية فهو الحكم البات الذي اطلقه رأس السلطة اطلاقا مسبقا لا يعبّر إلا عن ضغط على القضاء !؟ لا بل تظهر الضبابية في تجريمه المسبق لمن يجرؤ على تبرئة ايّ متهم وإن كان ضمنيا بريئا. فقرينة البراءة، وإن هي نظريةٌ قياسا على الرائج من التهم والرائج عن المتهمين ، لا وجاهة في نسخها . فلعل رأس السلطة ينازع في القضايا المحاكمةَ القانونيةَ المؤسسية”بالمحاكمة الشعبية” .
ب – أهدافُ الضبابيّة القانونية :
يصعب التّسيلم بأن تلك الضبابية القانونية عفوية ، سواء بالمظاهر التي ذكرنا او بالتي لم تذكر وهي شتى. فالضبابية متراكبة طبقاتٍ ، متراكمة حلقات . فهي على الأرجح ، حصيلة تعمّد تدبّرته الجهة الرسمية المحركة للدعوى . ذلك أن التّهم المتعلقة بالإرهاب هي من صميم التآمر على أمن الدولة . لكنّ جهة الدعوى لم تضعها في أوانها السابق تحت هذا العنوان. لكنها وضعتها اليوم تحته وضعا انتقائيا غامضا، مرفوقةً بقضايا اخرى جنائية. فلعل الهدف من تهمة التآمر على” أمن الدولة ” على الشياع هو معارضة السلطة وتهديد ” أمن الرئيس”. وهو أمن سبّقه الرئيس على أمن الدولة. لا بل لعله سبّقه على أمن المجتمع والدولة معا، وإلا كيف نفهم ان حزب التحرير ذا العقيدة الناسفة للدولة والمجتمع، يُحظى بالنشاط والحماية ، ويُضطَهد من يعارضه ؟ وكيف نفهم انّ القاضي السابق البشير العكرمي يودع السجن ، في حين أن الغنوشي ، وهو آمر العكرمي ورأش التنظيم ، يغادر التحقيق مرارا رافعا اشارة النصر ؟!
إن هذه الاسئلة وحدها تبعث على الإرتباب في الأهداف الحقيقية التي وراء الايقافات والإحالات رغم أنّ مبدأ المحاسبة العادلة مطلب شعبي أثير لا نشك أبدا في وجوبه . فلعل هذه التّهم التي لا نشكّ في جدّية أغلبها على الأقل ، قد ارادتها السّلطة مطايا لإسكات المعارضين وترهيبهم والتخلّص منهم ، ولآستدرار الولاء الشعبي التلقائي الذي لا يحصِّل مِمّا يجري إلاّ شعار أنّ سعيد بصدد “رَحيِ” مَن عاثوا في الدولة فسادا ؛ “الرحي” بالعبارة الشعبية الرّائجة اليوم بضرب من الثأرية العفوية التي لا يرشّدها العقل القانوني البارد المتّزن. ولعلّ هدف السلطة أولا هو ضمانة ولاء هذا الرصيد الشعبي السّاذج .
*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 28 فيفري 2023