الشارع المغاربي: بلورَت الإيقافاتُ الأخيرة حدّا فاصلا في المشهد الحزبي بتونس بين كتلتين. إحداهما المسماة “جبهة الخلاص” والأخرى الحزب الدستوري الحرّ. أما هذه “الجبهة” التي مركزها “إخوان النهضة” فإنّ الموقوفين ينتمون إليها انتماءً رسميا معلنا أو انتماء فعليا (1). وأما الحزب الدستوري الحر فقد بقي طليقا من كل مساءلة قانونية ومسؤولية سياسية عن المأزق المركّب الذي تردّت فيه البلاد (2.)
1/جبهة الخلاص
بين الموقوفين في تُهم مختلفة تحوم حول “التآمر على أمن الدولة” هناك قاسمٌ مشترك هام وآخر أهم. أما القاسم المشترك الهام فهو أن الجهة الحزبية التي ينتمون إليها أو يلتقون معها في الموقف من السلطة هي “جبهة الخلاص” التي تمارس الإحتجاج السياسي دفاعا عنهم (الموقفون) والتي تستنهض بذلك الإحتجاج التأييدَ الشعبي.
أما القاسم المشترك الأهم بين عموم الموقوفين مؤخّرا أو الموقوفين قبل ذلك فهو أنهم حزبيا وشخصيا تصدّروا المشهد السياسي التونسي منذ سنة 2011. وقد تصدّروه، فاعلين، سواء في المجلسين التأسيسي والنيابي أو في سلطة التنفيذ. كان لهم ذلك التّصدّر من مختلف المواقع والتحالفات المتحرّكة. وفي كل ذلك لم ينفصلوا عن مركزية الإخوان حتى في حالات التباين الظرفي أو المفتعل، والذي تأكّد في السابق وتأكّد اليوم بهذا التآلف في هذه “الجبهة” التي من المفارقة أنها تذكّر بـ “جبهة 18 أكتوبر” التي كان قد طوّح الإخوان بمكوناتها في اللحظة الحاسمة. أفَلاَ يعقِلون ولا يتّعِظون!؟.
فقادة “جبهة الخلاص” هذه يقودون اليوم حملة الدفاع عن الموقوفين وعن الموقف الجامع بينهم. وهذا الدفاع قانوني وسياسي. أما الدفاع القانوني فحق لكل متّهم. وقد انضاف إلى هيئات الدفاع من هُم من خارج الجبهة. وأمّا الدفاع السياسي فيهدف به قادة الجبهة إلى أن يوسّعوا لفائدتهم التأييدَ السياسي الشعبي. ويبدو هذا الهدف بعيد المنال وصادرا عن تقدير ساذج ومتنصّلا، خاصة، من كل مسؤولية سياسية.
ذلك أن مأزق البلاد الراهن ليس وليد اليوم فحسب. فهو حصيلة تراكم من الإنحرافات الفادحة التي يتحمّل مسؤوليتَها السياسيةَ، كاملةً، مَن هُم اليوم في هذه “الجبهة” أو من يدورون في فلكها. لا بل إن الحلقة الراهنة من تلك الإنحرافات والتي يمثّلها اليوم سعيد، إنما هي من صنعهم الفعلي المباشر وغير المباشر. ويكفي تدلالاً علة ذلك أن نستحضر معلّقات الغزل التي قالها الغنوشي في سعيّد إبان الانتخابات الرئاسية وما بعدها والتي قالها فيه مَن هُم في ركاب حركته الإخوانية. فالخصام الذي بينهم وبينه اليوم هو خصام داخل المنهج الواحد وقد اختلف السائرون فيه في منعرج من المنعرجات.
فالمال السياسي الفاسد الوافد والمحلّي الذي يُتّهَم به اليوم بعضُ الموقوفين إنما دشّن حضوره القوي مُذ تصدّر المشهدَ بعيد 2011 مَن يدّعون اليوم “خلاصا” للبلاد. وطيلة تصدّرهم ذاك، استفحل هذا المال واستفحل معه نفوذُ مصادره و “لوبياته”، وتعاظم النفوذُ السياسي للمنتفعين به داخليا وخارجيا. ولا تختلف عن ذلك تهمةُ الإرتهان للخارج والولاء لسفاراته. فطيلة سنوات ما بعد 2011، سادَ هذا الارتهانُ إلى حدِّ العمالةِ وإلى درجة أن سياستنا كانت تدار من الدوحة ومن أنقرة. ولم ينقطع تردّد هؤلاء”المُخَلّصِين” عن السفارات وعن تمكينها من توجيه سياسة البلاد. لقد ساد كل ذلك وقوِيَ جانِبُه بعد 2011 سواء قبل 2019، سنة انتخاب سعيد، أو بعدها، وسواء قبل 25 جويلية 2021 أو بعده. لذلك يصعب أن نصدّق أن سعيد يلاحق اليوم المحسوبين على جبهة الخلاص لمجرد تآمرهم على الدولة. فهذا التآمر قديم معلوم. إنما الجديد هو تآمرهم المفترض على أمنه وأمن منصبه. وفي الآن نفسه، من السذاجة أن تصدق أن جبهة الخلاص تعارض اليوم سعيد لأنّها تريد أن” تخلّص” منه البلاد. فقد كان مقودها بين يديها، فأوقعتها في الأوحال. فكيف ذلك؟.
يصعب أن نصدّق سعيد في أنّ حملة الاعتقالات قانونيةُ المنطلق ، وفي أنها خالية من الإنتقائية والحسبة السياسية. وليس أدلّ على ذلك من الافلات من المحاسبة الذي مكّن منه سعيد بالمغادرة، زمنَ تحجير السفر، ثالوثَ الخادمي والمشيشي والشاهد. فالخادمي هو رأس الخطاب المسجدي الذي حثّ على إرهاب “الجهاد” في سوريا، وهو الذي مسك وزارة الشؤون الدينية في أحلك المراحل. والمشيشي هو من جاء عليه مفصل 25 جويلية المحفوف بكيل من التهم الموجهة إليه وإلى حكومته الفاسدة المتآمرة الخائنة بعبارات سعيّد نفسه. والشاهد هو أدوَمُ من مسك رئاسة حكومة مسكا تغلغل أثناءه الفسادُ المسنود به وبالنّفود الإخواني عليه وعلى حكومته فضلا عن كونه ملاحقا في إحدى عشرة قضية، لا نعلم إلى حد الآن مآلاتها .
ومِنَ السذاجة أن نصدق أنّ لـ “جَبهةِ الخلاص” التي تتحرّك اليوم سنَدا شعبيا صادقا كافيا لِتُعارض به سلطة سعيد. فعلى مقتضى مسؤوليتها السياسية عمّا جرى في البلاد من كوارث وعما يجري اليوم، فإنّ حظوتها الشعبية هي اليوم في عداد الأموات. فالحدّ الأدنى من الذاكرة الشعبية لا يمّحي. ذلك أنّ قادة هذه “الجبهة” التي وُلدت كسيحة تلوّثوا تماما، وأضحوا اصواتا بلا صدى، وحصادا في وادٍ غيرِ ذي زرع.
2/الحزب الدستوري الحر
يُعتبر هذا الحزبُ اليوم من اهم الجهات السياسية الحزبية التي تعارض سعيّد معارضة اصيلة مسنودة بثقل شعبي أكيد. وليس ذلك كذلك صدفة. فهو حصيلة مراكز قوّة من حيث الخيارات والمواقف والتحركات. فرئيسة هذا الحزب، عبير موسي، افتتحت حضورَها السياسي بُعيد سنة 2011 بلحظةِ وقفتِها في قضية حلّ “التجمع”،. كانت تلك اللحظة إيذانا بولادة سياسية ذات خط سياسي وفكري واضح.
عارض هذا الحزب سلطة الإخوان ومَن معهم ويعارض اليوم سلطة سعيّد مثلما يعارض الكيانات التي خارج السلطة المباشرة والتي تلتقي فكريا وثقافيا وسياسيا، مع السلطة التي يُعارضها. بذلك ونحوه، اختَصّ هذا الحزبُ ببناء سياسي وفكري وثقافي استوَت لَهُ بِهِ هويّةٌ بيّنة لا تلتبس على ذي نظر.
ثم انه لم يتلوّث بالإنحراف بالسلطة. كما حافظ على نقاوة ذمّته المالية سواء بشهادة محكمة المحاسبات أوالبنك المركزي.
يُصرّ اليوم بعضُ الإعلام على أنّ المشهد السياسي الراهن تمثّله ثنائية سعيد من موقع السلطة من جهة، و “جبهة الخلاص” من موقع المعارضة من جهة ثانية. لكنّ هذه الثنائية مفتعلة، ولا تنطبق على واقع الحال. فإذا كان سعيّد مأثورا بالسلطة، فإنّ هذه “الجبهة” فقدت المقبولية الشعبية التي تسعى إلى أن تستقوِيَ بها في مواجهة سعيّد. فمثل هذا السعي إنما هو مبنيٌّ على تقديرٍ ساذج لدى قادتها وعلى تجاهلِ أنهم تلوّثوا بطبقة سميكة من الرداءة والبؤس بعد عقد من الغش بكل ألوانه ومظاهره. فالمنطق المجرّد لا يمكن ان يستثني من المعادلة السياسية الوطنية الجموع الدستورية بكل مكوناتها واذا اعتمدنا القياس الوحيد لشعبية الاحزاب مثلما تتجلى في كل عمليات سبر الآراء فالرافد الدستوري يبقى الأول على الاطلاق.
*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 7 مارس 2023