الشارع المغاربي: لوزارة الداخلية في الدولة التونسية المستقلة محلّ مخصوص. فهي رأس الوزارات، ومكمن السلطة الأول، ومحطّ الأنظار الطموحة. وإنّها سقف المناصب الوزارية. فمن مسكها ارتسم له بعدها نهجان، إمّا الوزارة الأولى أو رئاسة الحكومة وإمّا الخروج من المشهد بغير إرادة، اذ لم يحدث أن استقال منها وزيرها بقرار شخصي.
وإن استقالة توفيق شرف الدين من هذه الوزارة لا سابق لها. وإنّها ”مفاجئة” وملغزة. هي مفاجئة لأنّ سياقها لا يبعث ظاهره على توقّعها. وهي ملغزة لأنّ ما بين الوزير المستقيل والرئيس مودّة وثقى وشراكة في «حرب ضروس» لا توحي بتخلّي أحدهما عن ميدانها، إذا سلّمنا بها حربا نقيّة.
–1 قالها ثلاثا
قبل الاستقالة بأيام معدودات، قال شرف الدين: “إنّها حرب ضروس” على الفاسدين، وهم رجال السياسة والاعلام والأعمال الخ… قالها ثلاثا ثم كاد يجهش بالبكاء تأثّرا بوجاهة الحرب، وبوجوب ”الالتفاف حول الرئيس”، وعزما على خوض تلك الحرب بلا هوادة. وقد نزّل شرف الدين قوله في ما يشبه ولاء القائد العسكري لقائده الأعلى.
لم تظهر في ذلك أدنى علامة لاستقالة – أو إقالة – في الأفق القريب أو حتى البعيد. فلدى العموم ما يشبه اليقين بأن مآل شرف الدين في الداخلية موصول بمآل سعيّد في قرطاج، رغم ما يُثار بين الحين والحين من بعض الفتور الذي شاب العلاقة بين الرجلين، والذي بقي حبيس الاشاعة أو التخمين أو التقدير أو الاستنتاج.
–2 شكل الاستقالة
قال شرف الدين إنّ ”الرئيس خلع عليّ الأمانة”، وقال إنّي قررت أن ”أخلعها عن نفسي ” وأكثر من شكر الرئيس الذي استأذنه في الاستقالة فأذن له بها. وإلى هذا الحدّ تبدو الاستقالة حصيلة اتفاق ودّي بين الطرفين. ومن أمارات ذلك، فوق ما قال شرف الدين، أنّ الرئيس مكّن المستقيل من مزيّة أن يعلنها بنفسه، وأن ينسبها إلى قراره الشخصي بعد اتفاق بينه وبين الرئيس.
لكنّ الرئيس تحرّك كعادته ليلا وألغى شكل الاستقالة الذي أبان عنه شرف الدين. فقد أصدر سعيّد بلاغا أعلن فيه عن إعفاء الرجل، إعلانا ألحقه بتعيين خلفه. وها هنا، قد يبدو قول شرف الدين غير دقيق أو هو قول أراد أن يفعمه بالمودة ورطيب المشاعر، لكن الرئيس ردّ التحية بالتي هي أجفّ. أو لعلّ الاتفاق بين الرجلين لم يتضمن أن يعلن شرف الدين عن ”الاستقالة” إعلانا سابقا للبلاغ الرئاسي.
ومهما كانت الاحتمالات، فإنّ الأسئلة تحفّ خاصة بالسبب المعلن أو بالأسباب المسكوت عنها.
–3 أسباب الاستقالة
أقام السيد توفيق شرف الدين ”استقالته” على سبب رئيس وحيد هو السبب العائلي. وقد انتقى قياسا بيانه أنّ معوّضيه في الوزارة كثّر، لكن لا أحد يعوّض أبوّته. وتصريف القول هو اقتضاء أن يتفرّغ لابنيه بعد فقدان المرحومة زوجته في حادث أليم. وحرص شرف الدين على أن يخلع على كلامه مشاعر إنسانية جيّاشة، ليَنْفُقَ بها على المتقبّلين.
لكن تماسك هذا السبب لا يبدو أكيدا. فهو ليس من الأسباب التي تتيقظ فجأة. فقد مرّ على وفاة المرحومة ما يقارب السنة. ولا يصحّ أن يكون الرجل قد تذكر فجأة أن له في رعايته قصّرا اشتدّت حاجتهم الى ابوّة متفرغة بعد فقدانهم الأمومة اشتدادا مفاجئا. فالمرجّح أن هذا السبب العائلي، على نبله، هو رافد وليس أصلا.
إنّ في الحاح شرف الدين على أنّ الداعي إلى ”خلع أمانة الوزارة عن نفسه” انزياحا إلى ما يشبه الرّسائل ”المشفّرة” التي غفل عنها المتابعون. قال : ”أمننا أمانة، تونس أمانة، وطننا أمانة، أحلام الشباب الغارق في البحر أمانة، المعلم في قسمه أمانة، الفلاح في أرضه أمانة الخ…” فهذا الترديد هو من جنس ما ردّد الرئيس في البرلمان بمناسبة أداء اليمين. فشرف الدين يحيل على ذلك، لا بل أعاد ما قال الرئيس وقتئذ حرفيا بجملة ”ابتسامة الوليد في المهد أمانة”. وقد تلفّظ شرف الدين بهذه الجملة المستعادة حرفيا تلفّظ مخصوصا فيه نوع من ”التنبير” (L’accent/the stress) الذي لم يظهر جليا بالالحاح الصوتي وإنما بحركة الرأس وقسمات الوجه. هل يذكّر شرف الدين الرئيس بتلك الأمانات التي منها ”القاضي في مكتبه أمانة”؟ هل يلمّح شرف الدين إلى أنه لم يجد في مهامه أسباب الوفاء بتلك الأمانات تحت إمرة سعيد؟
لعلّ المعلن رسميا وبصفة غير رسمية يفسّر أسباب الاستقالة. من المعطيات الرسمية أن الوزير ”المستقيل” سبق له أن وجد صدّا لدى الجهات الأمنية والقضائية حين همّ بمداهمة منزل أحد ”أباطرة التهريب” ممّا اقتضى أن يتمسّك باستصدار الاذن وبتكليف الأمن مجددا بالمداهمة فجرا. ومن المعطيات غير الرسمية أن شرف الدين، وهو المحامي والحقوقي، لم يكن راضيا عن الطرق التي جرت بها بعض الايقافات، والتي فسّر بها البعض برودا مفترضا بينه وبين الرئيس. وإذا كانت هذه المعطيات غير الرسمية غير ذات قيمة وإن كانت حقيقية، طالما أن شرف الدين صمت عنها، فإنّ شبه الأكيد أن بعض التحرّكات الأمنية، لاسيما في شأن المظاهرات غير المرخّص فيها، لم تكن دوما خيطا منظوم التراتب والتوافق بين الرئيس ”والوزير”ووالي تونس. فبخلاف الرئيس والوالي، يلحّ شرف الدين، ولو بالقول، عن الجانب الحقوقي الذي يرى وجوب أن يلازم أداء وزارة الداخلية.
كما لا نستبعد أن بيان البرلمان الأوروبي الحاد تجاه تونس، والذي وجّه سهمه على وجه الحصر الى الرئيس والى وزارتي الداخلية والعدل، قد اقتضى ”كبش فداء”.
بيد أنّ هذا الاحتمال هو تخمين بعيد، اذا وضعنا في الحسبان أن قبضة شرف الدين الأمنية تغلّفت أحيانا تغلّفا قد لا يكون محلّ استحسان الرئيس، بدليل أنّ خلف شرف الدين أظهر، من موقع والي تونس، أنّه نذير قبضة أمنية خشنة في وزارة الداخلية.
–4 الوزير الخلف
كمال الفقي ذو سجلّ نقابي، وماض يساري. هو من تيار تقدّمي. انضمّ الى حملة الرئيس الانتخابية بمعيّة قرينته، فنال المكافأة، وهي ولاية تونس. وحالما تسلّم مهامه أظهر ولاء مستزادا للرئيس، وقَلَب لنفسه ظهر المجنّ، وعدل عن سابق تقدّميته، وانخرط في نظيمة الرئيس السّلفية المحافظة. وفي اختصاصه الأمني أظهر شدة وغلظة وخشونة وتشدّدا تجاه المظاهرات والمسيرات. وسواء كانت القرارات تصدر عن وزير الداخلية أو عن الرئيس، فإنّه مارس مهامّه أو نفّذها بقبضة خشنة. ولعلّ التأليف بين العناصر المتفرّعة في أقوال شرف الدين توحي بأنه كان ماسكا بكوابح الوالي. فقد ينذر هذا التكليف بمرحلة من تصعيد التشديد والتضييق والتفويق، لاسيما أن المزاج المهني الذي أظهره واليا، سيتصاعد، على الأرجح من موقع الوزارة، فضلا عن أنه مزاج قد استحسنه الرئيس فاصطفاه على أساسه ليمسك رأس الوزارات.
من الصعب جدا أن يكون هناك سبب واحد حاسم وراء انهاء مهام شرف الدين. فقرار بهذا الحجم بلورته أسباب شتى. ومقابل ذلك من الصعب جدا ألاّ تجتمع العناصر التي أفضت إلى تعيين خلفه كمال الفقي في سبب واحد رئيس. وهذا السبب المرجح هو ولعه بالعمل بلا “خزمة” ناظمة للمنع والتضييق. فلعله شبيه سعيّد الذي لا يعير اهتماما بالإجراءات والأمارات والقواعد سواء في استنطاق النصوص الدستورية وفي تحويل نصوصها النهائية أو في المنهج المتوخى في الايقافات. فلعلّ الرئيس المحافظ جدا، الولوع بالسيطرة الفردية قد رأى في الفقي المسكون بيسارية متحفية رجلا يؤمن بـ “المركزية الديمقراطية” وساعدا خشنا ملائما للمرحلة. فكلّ منهما في الأقاصي على طريقته. لقد اجتمعت بهذا التكليف السلفية الدينية والسلفية اليسارية.
*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 21 مارس 2023