الشارع المغاربي: عاشت تونس، خلال الأيّام الأخيرة، تحت سيل من الإملاءات والضغوط الدوليّة الشديدة تحذيرًا من ”الانهيار” الوشيك للأوضاع في البلاد ومن تداعياته المختلفة… محاولة للتشخيص…
ما انفكّ مشاهير خبراء الاقتصاد في تونس ”يُبشّرون” منذ سبع أو ثماني سنوات بـ”الإفلاس الوشيك” للدولة التونسيّة. تعاقبت الحكومات واجترّت الفشل، وفي كلّ مرّة يزعم أحدهم أنّ الدولة باتت عاجزة عن ضخّ رواتب الشهر اللاحق أو الذي يليه، دون أدنى قدرة على استشراف الإمكانات المتاحة أمام السلطات لتجاوز الصعوبات التي تواجهها وجمع احتياجاتها من الموارد الماليّة الضروريّة والإيفاء بالتزاماتها الداخليّة والخارجيّة. خطاب مراوغ ما كان بالإمكان التعويل على مصداقيّته، ذلك أن مصطلحا خطيرا مثل «إفلاس» الدولة لا ينبغي أن يصبح بمثابة علكة في الأفواه.
أمّا اليوم فقد تغيّرت الحال والأحوال وبات مصطلح «الإفلاس» و»الانهيار» الوشيك يَرِدُ على كلّ الألسنة، ولاسيما في تصريحات كبار المسؤولين، بدءا من إيطاليا ومرورًا بفرنسا والاتّحاد الأوروبي ووصولا إلى الولايات المتحدة الأمريكيّة ومحلّلي وكالات الترقيم الدوليّة الذين اتّفقوا تقريبًا على المواقف نفسها، معتبرين أنّ تجنّب الانهيار يمرّ حتما بحصول اتّفاق نهائي بين تونس وصندوق النقد الدولي، وبعبارة أخرى استجابة الدولة التونسيّة ورئيسها تحديدا لشروط المؤسّسة الماليّة المذكورة…
قرار ”دولي”
من الواضح إذن أنّ تلك التصريحات تحمل في طيّاتها رسائل متعدّدة تسير كلّها تقريبًا في الاتّجاه السلبي نفسه. وإنْ كانت تلك الرسائل موجّهة بالأساس إلى السلطات التونسيّة وإلى رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد بالخصوص، فإنّها موجّهة كذلك إلى عموم الدول والمحاور الإقليميّة وإلى سائر المؤسّسات الماليّة في العالم، لتُحدّد لها نطاق تعاملاتها مع الدولة التونسيّة وحدودها.
ومعنى ذلك أنّ الدول الكبرى حدّدت هامش التحرّك للسلطات التونسيّة وحثّت الدول والمؤسّسات الدوليّة على الامتناع عن منح تونس أيّة مساعدات أو قروض إلّا بعد أن توقّع اتفاقا مع صندوق النقد. فاتفاقية القرض باتت اليوم معيارا محدّدا للتعامل الدولي مع تونس. وهذا الأمر لم يعد مجرّد رأي يعبّر عنه خبير أو مسؤول دولي من هنا وهناك، بل تحوّل إلى شرط أساسي أغلق هوامش التحرّك أمام السلطات التونسيّة. إنّه أكثر من شرط عابر، فقد بات بمثابة قرار دولي لا فكاك منه ولا إمكانيّة بالنسبة إلى تونس إلّا الانصياع له. وهو ما يعني أيضا أنّ الخيارات المتاحة انحصرت اليوم في خيار واحد لا بديل له، وهو المرور حتمًا عبر بوابة صندوق النقد الدولي.
إنّها بمثابة إستراتيجيّة موحّدة قرّر الغرب أن يعتمدها حيال الدولة التونسيّة، دون اعتبار للضغوط والإكراهات الداخليّة التي قد تواجهها السلطات التونسيّة عند تنفيذها للإصلاحات التي يُطالبها بها صندوق النقد…
أكذوبة الدعم
مقابل كلّ هذه الضغوط قد نبحث، بلا جدوى، عن مواقف داعمة لتونس فعليّا، بما في ذلك طبعًا مواقف معظم الدول العربيّة البتروليّة الثريّة التي بدت ”انتهازيّة” سياسيّا إلى أبعد الحدود، وكأنّها لا تريد إلى كسر شوكة من تدثّر يومًا بمقولة ثورة الحريّة التي انطلقت من تونس.
ومنذ عام تقريبًا راجت أنباء كشفها دبلوماسي تونسي حول مطالبة الولايات المتحدة الأمريكية دولتي السعودية والإمارات بعدم تقديم مساعدات ماليّة أو قروض إلى تونس، وذلك بعد إعلان البنك المركزي التونسي عن وجود مشاورات متقدّمة بين تونس والدولتين المذكورتين بشأن إمكانيّة منحها قروض أو هبات. قد يُفسّر ذلك مثلا أنّ المملكة العربيّة السعوديّة لم تتردّد في الإعلان منذ فترة عن اشتراط تقديم مساعدات بقيام الدول المعنيّة بالإصلاحات الاقتصاديّة الضروريّة. والمقصود بذلك الاستجابة لشروط صندوق النقد الدولي، ومن ورائها شروط الولايات المتحدة الأمريكيّة. والحال أنّ السعودية نفسها كانت قد قدّمت 410 مليون دولار إلى أوكرانيا من بينها ما قيمته 300 مليون دولار من المشتقات النفطيّة.! وطبعا لا فائدة من الحديث عن قطر التي حصرت دعمها لتونس في جماعات الإسلام السياسي وحلفائهم، دون غيرهم.
أمّا بالنسبة إلى الجزائر، فدعمها لتونس يقتصر على الخطاب دون الفعل، وهو دعم لا نجد له أثرًا تقريبًا على أرض الواقع. ففي ضوء التصريحات الدوليّة حول ”الانهيار” الوشيك لتونس صرّح الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون مؤخرا بأنّ «تونس تتعرّض لمؤامرة، والجزائر تقف معها أحبّ من أحبّ وكره من كره». مقابل مثل هذا الدعم الكلامي المتواتر، تكاد السلطات الجزائريّة تمتنع عن تقديم الحدّ الأدنى من الدعم المالي الملموس لميزانية تونس، في وقت هي في أمسّ الحاجة إليه. يأتي ذلك على الرغم من الوفرة الماليّة الكبرى التي غنمتها الجزائر بفضل ارتفاع أسعار البترول والغاز. فلو كانت الجزائر تمرّ بضائقة ماليّة ما، لما رفعت الحكومة الجزائريّة ميزانية الدفاع إلى الضعف لعام 2023 حتى تجاوز حجمها 22 مليار دولار. والحال أنّ الرقم الإجمالي لقرض صندوق النقد الدولي لتونس لا يتجاوز 1.9 مليار دولار على أقساط. ولا ننسى مثلا أنّ السلطات الجزائريّة منعت السيّاح الجزائريّين، خلال العام الماضي، من زيارة تونس إلى غاية مُضيّ فترة الحجوزات للموسم السياحي. وفي المقابل، لم تغنم تونس من جرّها إلى مستنقع خلافات الجزائر مع المغرب شيئا يُذكر، لا مبدئيا ولا ماليّا…
كلّ ذلك يتطلّب من تونس إعادة النظر في دبلوماسيّتها وبنائها بناءً جديدا على أساس الشعارات الجوفاء بل أساس مصالحها قبل كلّ شيء، بعيدا عن لغو التضامن المكذوب.
ما وراء المؤامرة!
ما يحدث حاليّا ليس إذن مؤامرة دوليّة ضدّ تونس، لكنّه في الآن نفسه يترجم الضغوط الغربيّة الشديدة على الدولة التونسيّة، إلى حين استجابة الرئيس قيس سعيّد للشروط الموجعة والمجحفة لصندوق النقد الدولي. كما يبدو من الواضح أصلا أنّ القوى الغربيّة الكبرى لا تولي الملف السياسي الداخلي في تونس أولويّة أولويّاتها. فهي تُدرك أنّ المعارضة السياسيّة في أضعف حالاتها، لاسيما أنّها كانت السبب المباشر في ما آلت إليه الأمور اليوم. فهي التي مهّدت، بأخطائها المتراكمة وسياساتها الغنائميّة، الطريق للرئيس قيس سعيّد لاتّخاذ إجراءات شموليّة أتاحت له الانفراد بكافّة السلطات دون قدرة على الإصلاح.
لا ريب إذن في أنّ هناك قرارا أوروبيا/أمريكيا بتضييق الخناق على تونس بأشكال مختلفة. وعلى الأرجح بهدف اختبار مدى قدرة البلاد وحكومتها ورئيسها على الصمود أمام الضغوط الداخليّة والخارجيّة. وليس اعتباطيا مثلا أن نقرأ خبرًا تسابقت المواقع القطريّة على نشره يتعلّق بإعلان محامي بريطاني، خلال مؤتمر صحفي بلندن، عن تقديم طلب إلى وزير الخارجية البريطاني جيمس كليفرلي بـ»فرض عقوبات على المسؤولين التونسيّين رفيعي المستوى بسبب الانتهاكات الجسيمة والمستمرّة لحقوق الإنسان»… وفي الأثناء يعلن مسؤول السياسة الخارجيّة في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل عن مناقشة القادة الأوروبيّين للتصريحات غير المقبولة للرئيس التونسي حيال مهاجري جنوب الصحراء الإفريقيّة في تونس. كما سبق للبنك العالمي أن أعلن عن تعليق معاملاته مع تونس جرّاء تلك التصريحات العنصريّة وما أدّت إليه من ممارسات انتقاميّة ضدّ المهاجرين أفارقة جنوب الصحراء في تونس…
ولا يخفى أنّ كلّ ذلك يصبّ في خدمة معطى آخر في منتهى الأهميّة، ويتعلّق تحديدا بمساعي واشنطن المحمومة إلى إلزام تونس بالمضيّ في خطوات تطبيعيّة مع الكيان الصهيوني المحتلّ، بدليل أنّ السفير الأمريكي لدى تونس كان قد أكّد خلال اجتماع له بالكونغرس الأمريكي أنّ تطبيع العلاقات بين تونس وإسرائيل من أوكد مهامه.
كما كان النائب السابق عن دائرة إيطاليا مجدي الكرباعي قد كشف الأسبوع الماضي عن دعوة رئيسة الوزراء الإيطاليّة جورجيا ميلوني إسرائيل إلى مساعدة تونس في أزمتها الراهنة، وفق ما نشرته الصحيفة الإيطالية IL FOGLIO. وبالنظر إلى الحرج المتعلّق بهذه الملفّ ولاسيما بالنسبة إلى الرئيس قيس سعيّد جرّاء تصريحاته بشأن معادلة التطبيع والخيانة، فإنّ رئيسة الوزراء الإيطاليّة اليميّنيّة تُدرك دون شكّ ضرورة إعطاء اللوبي الصهيوني في العالم الضوء الأخضر حتّى يُزال «الفيتو» عن تونس سواء في صندوق النقد الدولي ومحيطه الأمريكي أو الاتّحاد الأوروبي أو حتى في أوساط بعض الدول العربيّة الثريّة…
باتت تونس إذن بمثابة مخبر لتجربة حدود الإصلاحات الدوليّة ومدى قدرة الدول الصغرى على تطبيقها وضبط شعوبها. وفي نهاية المطاف، لم يتبقّ أمامها إلّا الانطلاق سريعا في الاكتواء بمكواة صندوق النقد الدولي بعد أن «وقفت الزنقة للهارب» كما يقول المثل التونسي… ومع ذلك لا تزال تُمسك بورقة عجزت إلى حدّ الآن عن حسن توظيفها، وتتمثل في ملف الهجرة غير النظاميّة التي تُتيح التحرّك سياسيّا برًّا وبحرًا، بصرف النظر عمّا عقدته سابقا من اتفاقات بشأن هذه القضيّة الحارقة…
أهمّ المواقف الدوليّة حول «انهيار» تونس الوشيك
لو اختزلنا أهمّ المواقف الغربيّة، الصادرة خلال الأيّام القليلة الماضية، فإنّها تُجمع على أنّ الأزمة الاقتصاديّة والماليّة الحادّة التي تعيشها تونس جعلتها على حافّة ”الانهيار” وتقترب من شبح ”الإفلاس” . وهو ما دفع الدول الغربيّة وفي مقدّمتها الولايات المتحدة ودول الاتّحاد الأوروبي تُعرب عن انشغالها العميق بما آلت إليه الأوضاع في تونس وبما قد تؤول إليه.
• الاتّحاد الأوروبي:
حذّر مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، في بداية الأسبوع الماضي، من أن ”الوضع في تونس خطير للغاية”، معتبرا أنّه ”إذا انهارت تونس، فإن ذلك يُهدّد بتدفّق المهاجرين نحو الاتحاد الأوروبي والتسبّب في عدم استقرار في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.” وفي الآن ذاتهه، أكّد أنّ ”الاتحاد الأوروبي لا يمكنه مساعدة دولة غير قادرة على توقيع اتفاق مع صندوق النقد الدولي”، وأنّه على أن”الرئيس قيس سعيّد أن يوقّع اتفاقا مع صندوق النقد الدولي وينفّذه، وإلا فإن الوضع سيكون خطيرا للغاية بالنسبة لتونس” .
وأكّدت رئيسة المفوّضيّة الأوروبيّة أورسولا فون دير لاين، بمناسبة القمّة الأوروبيّة الأخيرة، أنّها وضعت ملف تونس ضمن الأولويّات الأوروبيّة، وفي المرتبة نفسها لمسألة أوكرانيا والمناخ والمنافسة… وهو في الحقيقة تصريح من قبيل الثرثرة السياسيّة لا أكثر لأنّ الاتّحاد الأوروبي لم يبذل أدنى جهد في دعم تونس بالمقارنة مع تلك الملفات المذكورة. وما يهمّ الأوروبيّين فقط هو التحكّم في سيل الهجرة السريّة التي قد تتدفّق على الضفّة الشماليّة للمتوسّط في حال تعكّر الأوضاع في تونس…
• الحلف الأطلسي:
حذّر ينس ستولتنبرغ أمين عام حلف شمال الأطلسي) الناتو( من أنّ ”تونس قد تعلن إفلاسها خلال ستّة أو تسعة أشهر على الأكثر، إذا لم يتمّ الإفراج عن قرض بقيمة 1.9 مليار يورو مجمّد في خزائن صندوق النّقد الدّولي”، مضيفا استعداد الحلف للمساعدة في منع تدفّق آلاف المهاجرين الجدد إلى أوروبا انطلاقا من الشواطئ التونسية.
• إيطاليا:
طالبت رئيسة الحكومة الإيطاليّة جورجيا ميلوني الاتحاد الأوروبي، في قمّته المنعقدة الأسبوع الماضي، بـ”استباق الخطر الوشيك لموجة هجرة عارمة تنطلق من تونس المهدّدة بخطر الإفلاس”، قائلة: “إذا انهارت تونس سيُداهمنا 900 ألف لاجئ”… ومن ثمّ تدافع المسؤولون الإيطاليون للتعبير على ضرورة استباق الخطر المحدق ودعم تونس فورًا للحؤول دون عجر السلطات التونسيّة عن التصدّي لموجات غير مسبوقة من الهجرة غير النظاميّة…
• فرنسا:
اعتبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، يوم الجمعة الماضي خلال قمّة بروكسال، أنّ ”التوتر السياسي الكبير جدا في تونس والأزمة الاقتصادية والاجتماعية المستعرة في ظلّ غياب اتفاق مع صندوق النقد الدولي، مقلقة للغاية”، داعيا إلى ”العمل معا” على المستوى الأوروبي لمساعدة تونس والسيطرة على الهجرة. هذه العناوين المتعلّقة بمساعدة فرنسا جاءت تفاصيلها بسرعة على لسان سفيرها في تونس أندريه باران الذي صرّح أن بلاده مستعدّة لتقديم تمويلات إضافية للمساهمة في تغطية الفجوة في ميزانية تونس مقابل تنفيذ مخطّط الإصلاحات التي يشترطها صندوق النقد الدولي. وأوضح أنّ المساعدات الفرنسيّة، وقدرها 250 مليون يورو، يمكن صرف 50 مليون يورو منها مباشرة بعد المصادقة على القانون المتعلّق بالشركات العموميّة في حين يبقى صرف 200 مليون يورو رهينا للتوصّل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي…
• الولايات المتحدة:
حذّر وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، الأربعاء الماضي خلال جلسة استماع للجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي، من أنّ ”تونس تحتاج بشكل طارئ إلى التوصّل إلى اتّفاق مع صندوق النقد”، معتبرا أنّ ”الاقتصاد ( التونسي) قد يتّجه إلى المجهول” . كما حمّلت مساعدة وزير الخارجية الأمريكي باربرا ليف السلطات التونسيّة مسؤوليّة حدوث انهيار اقتصادي، إذ ذهبت إلى أنّ”مصير مساعي تونس للحصول على قرض من صندوق النقد الدولي في يدي الحكومة .” وشدّدت على أنّه ”لسبب ما لم توقّع الحكومة التونسيّة على حزمة الإصلاحات التي تفاوضت عليها”، وأنّ ”المجتمع الدولي مستعدّ لدعم تونس حينما تتّخذ قيادتها قرارات جوهريّة حول وجهتها”، و”إلى حين تُقرّر الحكومة توقيع حزمة الإصلاح الخاصة بها سنظلّ مكتوفي الأيدي” .
*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 28 مارس 2023