الشارع المغاربي: ما أشبه اليوم بالأمس! تحريم الفنّ في تونس ليس حكرًا، كما قد يعتقد البعض، على السلفيّين ومشتقّاتهم. في هذه البلاد المنكوبة بحُكّامها يُمارس منع من الفضاء العام في شتّى الأزمان، وحريّة التعبير التي فرضها التونسيّون أيّام الثورة باتت من أضغاث الأحلام…
”نجيب بوزينة” قد يكون اسما مجهولا لدى معظم التونسيّين، لكنّ لا ريب في أنّ الكثير من العابرين والعابرات لشارع العاصمة الرئيسي يعرفون ذاك الرجل الخمسيني والعازف الحاذق والفنّان الهادئ الذي طالما أبهجهم بمعزوفاته على آلة البانجو (Banjo) الوتريّة. ومن المؤكّد أنّ هؤلاء أو بعضهم قد وضعوا دينارًا أو ما يزيد تشجيعًا له وبدلا لجهده في إضفاء مسحة فنيّة على شارع كثيرا ما ارتسم على امتداده هدير الأحزان وحتّى الأفراح أحيانا… عازف البانجو ارتحل بداية هذا الصيف القائظ إلى كرنيش ضاحية المرسى، حيث يتهادى الزوّار أملا في انتزاع أوجاع النهار والاستمتاع بنسائم البحر وأجواء يفتقدونها. أمّا العازف الفنّان، فكان مآله المنع رسميّا من العزف ومصادرة آلته المحبوبة والحكم عليه بالبطالة الإجباريّة. والأكثر من ذلك أنّ المكلّفين بتنفيذ القانون رفضوا وامتنعوا وماطلوا العازف مرارا وتكرارا في إعادة حبيبته الوتريّة!.
تصوّروا أنّ مجرّد آلة موسيقيّة أزعجت السلطة في مدينة المرسى الغرّاء وأقضّت مضجع باياتها وألهمت إحدى دوريّاتها الأمنيّة وابلا متناهيا من العبقريّة، إلى درجة مصادرتها وكأنّها سلاح إجرامي أبيض أو أسود أو منعدم الألوان والأحلام، ثمّ الرمي بأداة الجريمة الفنيّة في أحد غياهب مركز الحجز بالمنطقة وتناسيها إلى يوم يُبعثون.!
نجيب بوزينة ليس للأسف الشديد فنّان الشارع التونسي الأوّل أو حتّى الأخير الذي تلكعه السلطة بمحضرٍ لإحداث الهرج والتشويش في الطريق العام، وتواجهه بقَدْرٍ هائل من القمع والمنع والتكميم. فالفنّ مجرّد بذخ ضارّ لا طائل منه والإبداع لا مكان له في الشارع والمهمّشون لا حقّ لهم في ممارسته في الفضاء العام…
منذ اعتصام “القصبة1” أخذ فنّ الشارع في الازدهار والانتشار هنا وهناك في ربوع تونس، بعد عقود طويلة من المنع والظلم ومحاكمة النوايا. ثمّ لم تمرّ بضعة أعوام حتّى استيقظت عصا المنع والتحريم والتعصّب الرسمي مجدّدًا في شارع الحبيب بورقيبة وما جاوره، تحت عناوين تسلّطيّة عديدة. ففي عام 2015 تمّ إيقاف مجموعة “الفنّ سلاح” الشبابيّة ومُنعت من العزف والغناء وفُرض على أعضائها توقيع التزام بعدم العودة إلى الشارع. وفي العام اللاحق، أي عام 2016، مُنعت مجموعة شباب “من حقّي نعيش الفنّ” بدورها من ارتكاب “جرم” العزف والغناء في الشارع. وفي هذا المضمار، لم تجد وزارة الثقافة من تبرير للتعسّف إلّا التأكيد بأنّ منع هؤلاء الشباب من العزف يعود إلى عدم قيامهم بالتنسيق مع السلط المحليّة، وكأنّ الموسيقى والغناء والفنّ عموما تُشكّل خطرا داهما على السلم والأمن الاجتماعيّين. ومن ثمّة يُلزم المغرمون بالموسيقى بدلا من الإجرام إلى إخطارٍ وإشعارٍ وتنسيق محكم مع ذوي الشأن والقرار، نظرا إلى المخاطر الجسيمة التي قد يُفرزها هذا الصنف النظيف من الإبداع المهمّش والثقافة الموازية.
ما عسانا نقول حيال هذه الفضيحة التونسيّة الجديدة، ونحن نشاهد يوميّا عشرات الفيديوهات تُصوّر درجة الاحترام التي يلقاها العازفون والمغنّون الذين ينشرون البهجة والفرح على أرصفة الشوارع الكبرى والساحات العامّة وفي محطّات السفر وعلى متن وسائل النقل العموميّة سواء في عواصم الدول الغربيّة أو سائر المدن السياحيّة في العالم؟!…
لا يسعنا، من فرط الخجل، إلّا أن نعتذر لنجيب ولرفاقه الممنوعين من الغناء والعزف والتعبير، ونقول لهم ولأنفسنا يال الأسف على تونس التي أُجهِضت ثورتها، وبدلا من التجارة الموازية وأطنان البضائع المهرّبة المنتشرة في كلّ مكان، باتت الموسيقى والأحلام تُصادر حتّى من شوارعها الحزينة…
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 22 اوت 2023