الشارع المغاربي: “الصّفر فاصل”هو على المجاز لا على الحقيقة. لكنه ليس على تمام المجاز الذي لا حقيقة فيه. فنسبة 11% من الناخلين هزيلةٌ هُزالَ”الصفر فاصل”. و هذه النسبة هي نحو o,8 من الشعب التونسي. و في مركز برج الخضراء نسبة الإقبال هي صفر مُفرغ الإستدارة. هي صفر و لا فاصل أو فاصلة.و الحقيقة التي لا مجازَ فيها أن شعب تونس قد أعادَ رسميا يوم 29 جانفي2023 ما كان قد قال يوم 17 ديسمبر 2022.لقد أعاد بالبند العريض الرفضَ شبهَ الكامل لهذا المسار الغشيم و لصاحبه الدَّؤُوب على الهروب إلى الأمام.
1/الهروب إلى أمام الأمام:
بعد أن أعرض عن الإقتراع في الدور الأول نحو 90% من الناخبين، توقع فريق طيّب من التونسيين أن تلك النسبة كفيلة بأن تردّ صاحبَ المسار إلى الرشد، فَيُلغيَ الدور الثاني بمسؤولية و شجاعة و نقد ذاتي، و يُذعنَ لحقيقة أنه يسير على عكس ما يرتضي الشعب الذي طالما ادّعى أنّه لسانُ حالِه الصّدًوقُ، و خلاصةُ إرادته و صوتُ مهجته. و ما زاد في وجاهة ما توقّع ذاك الفريقُ أنّ تلك النسبةَ شبهَ الميتة في الدّور الأول لم تكن معزولة عما سبق. فقد سبقَتها نُذرُ الإقبال الضعيفة على “الاستفتاء”، و قبلها نسبة الإقبال الهزيلة على “الإستشارة”، رغم ما حفّ بها من استحثاث رسمي للناس عليها، سواء بتسجيل الناخبين تسجيلا آليا أو بالنزول بالحق في الإستشارة المحددة لعقد تونس الجامع إلى سن الطفولة.
قال وقئذ صاحب المسار إنّ الأمور على ما يرام ، و إنّ الاستشارة ناجحة و الاستفتاء أنجح. كان قد هرب إلى الأمام هروبا. و جاء يوم يوم 17 ديسمبر 2022 الانتخابي في الدور الأول، فكان الإعراض عن الإقتراع فاحشا. و لم يذعن صاحب المسار لذلك لإعراض بنحو 90% من الناخبين. و مارس الهروب هذه المرة إلى أمام الأمام. لا بل استنبط ذلك التخريجَ العجيب الذي بيانه أنّ نسبة الإقبال على انتخاب أعضاء مجلس نوابه في الدور الأول هي كنتيجة الشوط الأول من المباراة ، و أنّ ضبطَ النسبة يكون بنهاية الشوط الثاني. وجاءت حصيلة الدور الثاني تأكيدا لسابقتها. فهل من سبيل إلى المزيد من الهروب!. لقدوقفت به الزّنقةُ؛ زنقةُ المشروعية.
2/الشرعية والمشروعية:
رئيس المسار هو أوّل من كثَّف الإصداحَ بالفَرق بين”الشرعية” و “المشروعية” وأقام عليه حِجَاجَهُ. كان ذلك حين كان يمهّد الطريق إلى 25 جويلية 2021. كان حجاجُه ينهض على أنّ الشرعية مفهوم قانوني مؤسسي،و أن المشروعية بخلافها. فهي مفهوم سياسي شعبي. كانت لعبتُه أن الصّدام بين المفهومين قد استفحل، و قد استفخل فعلا. و كان رهانه هو على أنّ المشروعية قد تأكلُ في بعض الحالات الشرعيةَ أكلا قد لا يخلو في عمقه من بعض الشرعية. فإذا تعارض منطوق النصوص و منطوق الشعب كلَّ التعارض، جاز على نحو من الأنحاء أن يعلوَ منطوق الشعب. و كان يوم 25 جويلية2021 الذي أراده صاحبُه تاريخَ شرعيةٍ قانونيةٍ استنفذَت لها عمُرَها المفترضَ المشروعيةُ الشعبيةُ.
اليوم ألسنا في المفترق نفسه من زوايا شتى؟ لنترك جانبا الزوايا الكثر الأخرى، فنقصرَ القول على إحداها، و هي البرلمان القادم و المسار الذي يتنزل فيه.
من حيث الشرعية القانونية ينعقد( لا نحبّ”ينتَصِبُ”) البرلمانُ انعقادا سليما. لا ينصّ القانون على نسبة اقتراع بها يكون أو لا يكون. لا بل صار لِبَرلمان تونسَ القادمِ العجيب أعضاء ممّن ترشّحوا فرادى، قد فازوا فعليا بصفر من الأصوات، أو بتزكية”نصية” لا تمثيلية فيها لإرادة الناخب المتخيّر تخيّرا حُرّا بين مترشح و آخر على الأقل، ترجّحُه أو لا ترجّحُه نسبةُ الحصول على الأصوات.
لكن هذه الشرعية القانونية النّصّية هل يلازمها الحدُّ الأدنى من المشروعية الشعبية؟ و هل يلازم هذا الحدُّ الأدنى شرعيةَ أن يستمرّ المسارُ بكامله و أن تستمرّ شرعيةُ صاحبه؟. كيف يستقيم شعبيا و سياسيا أن يمثّل الشعبَ نوابٌ لم يخترهم 90% منه؟. و هل يصحّ أن تكتسب المشروعيةَ السياسيةَ والشعبيةَ انتخاباتٌ أعرض عنها تسعةُ أعشار الناخبين؟.
ها هنا نُسائل فقيهَ الشرعية و المشروعية عن مآل فِقهِهِ إزاء نفسه؟ هل سيكيل بمكيال واحد أو سيتّجه إلى”فقه” “حرام عليك حلال علي”؟. الرّاجِحُ أنه سُيُحٍلّ لنفسه ما حرّم على غيره و إن أصاب وقتئذ. فَمَا أطوَعَ فِقهَهُ في هَواهُ التّقسيمي حتى بَينَه و بَين نفسه!.
3/ترسيخ التقسيم:
لا نعلم رئيسا يضاهي صاحبَ هذا المسار إصرارا على تقسيم شعبه تقسيما بكل المعايير. و لولا صمود نسيجه العريض بفضل”الوحدة القومية” التي أصّلها فيه الزعيم الخالد بورقيبة لصار أشلاءً و مِللا و نحلا و” كونتونات”. فقد قسّم صاحب المسار هذا الشعب الذي تعدادُه تعدادُ قريةٍ في الصين أو الهند إلى فقراء أفاضل على الإطلاق، و قلة من الأغنياء اللصوص على الأطلاق، و إلى ساسة في غير فلكه الرئاسي خوَنة كلهم ومتآمرون و ساسة في فلكه يكسوهم الطهر و العفة على بكرة أبيهم.كما قسّم الشعب إلى أنصار العودة إلى الوراء وأنصار”العودة” إلى الأمام ، و إلى شركاء في البناء الشاهق و أنصار البناء”الواطي” و إلى أنصار نسبة 9% النزيهة و أنصار نسبة 90% المغشوشة.
وزاد صاحب المسار على التقسيم داخل التقسيم بهذه الإنتخابات التي تقوم على الإقتراع على الأفراد الذين قد يشترك الواحد منهم في تمثيل جهتين أو أكثر. ففي هذا الدور الثاني منها، شهدت”الانتخابات” فبي الجهات الممثّلَة ، مثنى و ثلاثا،بنائب واحد تنافسا بين المتبقّيَين للدور الثاني قد بَعُدَ كلّ البُعد عن الروح المدنية.
فقد تحكّمت في رَمَقِ التصويت روحُ التقسيم المحلي و الجهوي و القبلي و العشائري. وقد استثمر بعض المترشحين القانونَ الإنتخابي لتقوية حظوظهم بإثارة تلك النّعرات. و قد نطقَت في بعض الجهات ألسنُ القلة الناخبة بالاحتكام في اختياراتها إلى ما قبل قيم الدولة، و إلى النفخ في رماد التقسيم بين الجهات والمناطق.
والمرجّح أن الغرفة الثانية التي سماها صاحب المسار “المجلس الوطني للجهات والأقاليم” سينهض فيها من الرماد لهبُ الجهويات والعروشيات والقبليات، نظرا إلى المتوقع من طريقة الإنتخاب.
ثم إن هذه الغرفة الثانية هي اليوم لغز من حيث صلتها بالغرفة الأولى”المنتخبة”يوم 29 جانفي 2023.فهل ستنعقد الغرفة الأولى قبل انتخابات
الثانية أو ستنعقد بعدها؟. وفوق كل هذا، هل هاجس تونس اليوم ، و هي على حافة المجاعة و الإفلاس، هو فَردٌ يصرّ على الحكم بمفرده، صحبة غُرفة منزوعة الدور لم يختر أعضاءها إلا القلة من الشعب، و بأخرى مبهة؟.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة الثلاثاء 31 جانفي 2023