الشارع المغاربي: لم يبالغ غرامشي (Gramsci) حين عدّ رياضة كرة القدم “مملكة الحريّة الإنسانيّة التي تتحقّق في الفضاءات الكبرى”، ولم يجانب أوروال (Orwell) الصّواب حين أجابه بأنّ هذه الرياضة شكل من أشكال الحرب التي يخوضها الشباب بالأرجل بين جماهير متعطّشة إلى الصّدام. وحين نثمّن مقاربتين متباينتين في السياق ذاته، معناه أن المسألة المطروحة للدرس قابلة للتوظيف حسب مرجعيّة من يقف خلف اعتمادها. وإذا انطلقنا من الشعار الثقافيّ “العقل السليم في الجسم السليم”، الذي تتقاطع فيها الذّاكرات الإنسانيّة، نكون قد انخرطنا في تبنّي المفهوم الغرامشي لرياضة كرة القدم.
يمثل مضمون الشّعار الثقافي السابق معادلة ترغّب في ممارسة الرياضة من جهة، وتربط بها سلامة التفكير والتعبير وحسن السلوك من جهة ثانية. وكثيرا ما مثّلت الرياضة عامل حوار وتقارب بين الشعوب، وسجّلت اختراقات في العلاقات المتوتّرة بينها أمام عجز الاقتصاد والثقافة والسياسة عن أداء المهمّة. ومن الأمثلة المعاصرة على هذا الاختراق الذي حصل بين النظامين السياسيين الأمريكي والإيراني رغم درجة التوتّر في العلاقة بينهما، ونجح الرياضيون فيما عجز عنه السّياسيون ورجال الفكر والاقتصاد رغم اتساع دائرة العولمة وتحوّلها إلى معطى واقعيّ وموضوعيّ. لقد تخطّى لاعبو كرة القدم للمنتخبين الوطنيين الحواجز، ونجحوا في التنافس ضمن مباريات مثيرة انتظرها الجمهور الرياضي في العالم بشغف وحذر شديدين. وانتهت المباريات الثلاث التي دارت بين الجانبين في أجواء عاديّة وإيجابيّة، ولم تُسجّل حوادث تُذكر، وخاب أفق انتظار مواصلة الصراع بين الثقافتين الأمريكيّة والإيرانيّة المستفحل في المجالات كلّها. وأثبت كرة القدم والرياضة عامّة أنها يمكن أن تكون عامل بناء للثقة بين المتنازعين، ومدخلا فاعلا في معالجة أسباب التوتّر بين الجماعات البشريّة، والتقليل من مظاهرها في الحدّ الأدنى. ولم تكن تونس بمعزل عن هذه المعادلة بمعناها الواسع، فراهنت الحكومات المتعاقبة، وإن كان عددها قليل، على الاستثمار في الرياضة من زوايا مختلفة، ولأهداف متنوّعة من بينها حماية الشباب من التورّط في مطبّات مثل الجريمة والإرهاب، وتطويع طاقاته للإبداع المنظّم. وتطالعنا اليوم في مواقع التواصل صور بالأبيض والأسود، تعود إلى النصف الثاني من القرن الماضي تظهر فيها المرأة إلى جانب الرجل على مدرّجات الملاعب رغم الطبيعة المحافظة للمجتمع التونسي التي قاومت التحاق الأنثى بمقاعد الدراسة إلى حدود خمسينات القرن الماضي، وتحضر العائلات بكافة عناصرها مستفيدة من الأجواء المناسبة للثقافة التقليديّة التي نشأ عليها المجتمع التونسي. وقامت تلك الثقافة المحافظة على الاحترام في مستويات واتجاهات عدّة، مثل احترام الصغير للكبير واحترام الرجل للمرأة في مستوى الخطاب أساسا، واحترام معجم الخطاب الاجتماعي المتفق عليه إجمالا. ولكنّ هذا المناخ الثقافي الاجتماعي الأخلاقي أخذ في التراجع مع منتصف العشريّة الثانيّة من هذا القرن، ولم يعد الفضاء الاجتماعي آمنا للعائلات والمرأة تحديدا. وبلغت التحوّلات ذروتها مع سنة 2008 في ملاعب كرة القدم حتى صار التساؤل: أهيّ حريّة أم حرب في ملاعب كرة القدم؟ واستمرّ الوضع في التدحرج نحو مزيد التأزيم مع كل سنة جديدة. وحين نقول سنة 2008 نستحضر بالضّرورة استفحال أزمة النظام السياسي القائم حينها، وتراجع أدائه السياسي والاقتصادي في مقابل ارتفاع نسق تسلّطه لسدّ الفراغات التي تركها تراجع فرص الاستثمار والعمل لدى الفئات الشابّة خاصّة. وبدأ الصّدام بين السلطة والشّعب يظهر إلى العيان بين أحداث فرديّة وجماعيّة لعلّ أبرزها أحداث المناجم التي حدثت فيها المواجهة العلنيّة بين الشعب وقوات الأمن للمرّة الأولى منذ حوالي ثلاثة عقود.
إذا عدنا إلى تعريف غرامشي لكرة القدم نجد الشباب قد طبّقه عمليّا في الملاعب، ومارس حريته من خلال مواجهة رموز النظام كلّها في ذاك الفضاء المغلق معماريّا، والمفتوح فكريّا ونفسيّا على الصراع. ونجد مثالا تفكيكا لهذه الصورة التونسيّة المركّبة في كتاب مهم لإدواردو غاليانو (EDUARDO GALEANO) وسمه بـــكرة القدم في الشمس والظلّ، وتحدّث فيه عن فضاء الملعب فجعله معبدا ينافس المعابد التقليديّة، بل يتفوّق عليها، وجعل محبة الفرق الرياضيّة ديانة ليس بين أفرادها ملاحدة، وعقيدة لا يختلف أتباعها في فهم تفاصيلها، وجعل المشجّع مؤمنا ورعا تقيّا إلى أقصى الدّرجات في الوفاء لفريقه. ومما جاء في رسم صورته ” المشجع ھنا يلوّح بالمنديل، يبتلع لعابا يأكل قبعته، يھمس بصلوات ولعنات، ثم يمزق حنجرته فجأة ً بھتاف ٍ مدوّ، ويقفز مثل برغوث معانقا ً المجھول الذي يصرخ معلنا الھدف بجانبه. وعلى امتداد الصالة الوثنية، يشاطر المشجع آلاف الورعين من أمثاله في القناعة بأنهم الأفضل، وبأن جميع الحكام مرتشين، وجميع الخصوم مخادعين”. وتحوّلت أغلب المباريات في الملاعب التونسيّة إلى مواجهات مفتوحة يشارك فيها الجميع، فداخل المستطيل الأخضر يتخاصم اللاعبون والمسؤولون، وفي محيطه، سواء على المدارج أو في أحواز الملاعب تدور المواجهات بين رجال الأمن والفئات الشابّة من المتفرّجين. وصارت هذه النهايات بدايات في كثير من الأحيان. ولم يبالغ المهتمون بأحداث الحراك المجتمعي في تونس أواخر 2010 حين جعلوا بدايته على مدارج الملاعب الرياضيّة. وإذا أردنا فهم هذه الحالة التي تحوّلت إلى ظاهرة بعد حوالي 15 سنة، يمكن أن نجعلها في مجموعة من الأسباب نتخيّر منها التالي:
تمثّل صورة المشجّع التي رسمها غاليانو في كتاب المذكور سابقا ترجمة لمعنى “كرة القدم أفيون الشعوب”. وحين تنبّه السياسيون في الدّول المتأخرة اقتصاديا وسياسيّا وفكريّا إلى هذا المخدّر الفعّال، اجتهدوا في استثماره للتأثير في وعي الشعوب. وارتبط نجاحهم في بناء هذا المعادلة، بمدى قدرتهم على ضمان حدّ أدنى مطلوب من مقوّمات الاستقرار الاجتماعي. وبمجرّد انخفاض منسوب الحدّ الأدنى ونزوله إلى درجة السّالب (-)، تستعيد الجموع وعيها، وتتجه مباشرة إلى المواجهة مع النظام القائم ورموزه. وتظهر معالم استعادة الوعي من خلال الشعارات المرفوعة والأهازيج المردّدة جماعيّا على المدرّجات، وغالبا ما تتجاهل النشاط الرياضي رغم كونه القادح الأصلي، وتتجه مباشرة إلى طرح قضايا سياسيّة واجتماعيّة ظنّ النظام السياسي القائم أنّه غيّبها وغطّى عليها، في حين أنّه حيّدها حينيّا، وعزّز آليات انفجارها بمراكمة الشعور بالحرمان من الحريّات والعدالة. وقد يتقاطع المحلّي بالكوني والإنساني فتشبّك نصوص الأهازيج والشعارات المرفوعة بين قضايا اجتماعيّة مثل الفقر والبطالة وضعف الخدمات والفساد وقضايا إنسانيّة قريبة من مشاغلها مثل القضيّة الفلسطينيّة وغيرها في محاولة للماثلة بين الضحيّتين والجلاّدين. ومن أبرز الأهازيج تلك التي أدتها جماهير الرجاء الرياضي المغربي. ونقتطف منها: في بلادي ظلموني، لمن نشكي حالي، الشكوى للرب العالي، غير هو اللي داري، في هاد البلاد عايشين في غمامة، طالبين السلامة، انصرنا يا مولانا، صرفوا علينا حشيش كتامة (كتامة: إقليم مشهور بزراعة الحشيش)، خلّاونا كاليتامى، نتحاسبوا في القيامة، مواهب ضيّعتوها، بالدُوخة هرستوها (الدوخة: المخدرات)، كيف بغيتوا تشوفوها، فلوس البلاد گع كليتوها، للبرّاني عطيتوها، Génération قمعتوها، وقتلتوا La passion . وتغنّت جماهير المدرجات التونسيّة بقضايا الفقر والعدالة والتمييز السلبي بين الناس والبطالة والهجرية الاضطراريّة (الحرقة). وعبّرت عن شعورها بالظلم بتهشيم الملاعب والاعتداء على الأمن والمنافس، وقد وصل الأمر إلى حدّ الصراع بين مكونات الجمهور الواحد، مما اضطر الأمن للتدخل والاشتراك في الصراع، ليصبح الجميع ضدّ الجميع في الملعب.
غالبا ما تربط الذّاكرة الجماهيريّة الرياضيّة العدالة الرياضيّة بالعدالة الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة. وغالبا ما تُتّهم مواقع النفوذ التقليديّة بتغييب العدالة الرياضيّة تتمّة لمشروع الحيف والظلم المسلط على المناطق الأقل حظّا في بلد ما. ولا غرابة أن تجد فريقا مثل النجم الرياضي الساحلي محلّ عداء بسبب احتفاظ جزء من المتخيّل الجمعي التونسي باستئثار منطقة الساحل بالإدارة السياسيّة للبلاد منذ الاستقلال، وتحميل أهلها المسؤوليّة عن بطء التنمية في المناطق الأخرى أو ضعفها أو انعدامها رغم ضعف الحجة ووجود حالات مماثلة من الحرمان في أرجاء السّاحل. ولا تكترث الجماهير المنتفضة إلى انحدار أغلب لاعبي الفريق من جهات تونسيّة عدّة، وإلى المظالم التي تعرّض لها الفريق مثل غيره من الفرق. وقد يصل الأمر حدّ تبرير الأخطاء في حقّه بتحقيق العدالة الثأريّة منه. ويحدث الأمر نفسه مع فريق الترجي الرياضي الذي تداولت على رئاسته شخصيات سياسيّة وماليّة بارزة ترتبط بالنظام السياسي. ولا ترى الجماهير الرياضية غير الداعمة للفريقين، في انتصارات الفريقين وتتويجاتهما، إلاّ تسلّطا للسلطة السياسيّة والماليّة. ويتدعّم هذا الشرخ بالأخطاء التي تستفيد منها الفرق المهيمنة (الأربعة الكبرى) على حساب الفرق الأخرى، وتحكم هذا الرباعي في سوق اللاّعبين والحكّام والمؤسسات الرياضيّة مثل الجامعات والمحاكم الرياضيّة وتمثيل المنتخبات. هذه العوامل كلّها تمثل معينا للانتفاض والثورة وممارسة العنف غير الشرعي.
نعود مرّة أخرى إلى المعضلة التي يسبّبها الإعلام بانزياحه عن موضع السلطة البناءة والانخراط في تفاصيل مظاهر الأزمة التي عرضناها سابقا. وحين يكون الإعلام غير مستقلّ ماديّا وغير منظّم قانونيّا، يُفسح المجال واسعا للتأثير في الإعلاميين وجرّهم إلى مربعات المساومة والاستقطاب بشكل طوعي أو اضطراريّ. وتتعمّق الأزمة حين تمارس السلطة السياسيّة القائمة القمع، وتعوّض المنع بفسح المجال لحريّة التعبير في المجال الرياضي ليكون مُتنَفّسا ضروريّا لجهود القمع في المجالات الأخرى. وقد بيّنا سابقا أنّ المسائل الرياضيّة لا يتجاوز دورها دور الشجرة التي تخفي الغابة، إذ بمجرّد زحزحة بسيطة لموضع الرؤية، تتجه الأنظار إلى القضايا الأساسيّة للشعوب، وتنشب المواجهة مع السلطة السياسيّة على قواعدها الحقيقيّة وهي الاجتماعي والسياسي بدرجة أولى. وتتجه الأمور أكثر نحو مزيد التأزيم حين تتحوّل بعض البرامج الرياضيّة إلى مسرحيات “قانونيّة” للصراع بين جماهير الفرق، ويتم اختيار عناصر البرامج حسب انتماءاتهم ووزن فرقهم في ضرب صريح لأهليّة الإعلامي وكفاءته، ويجري التركيز في اختيارهم على مدى قدرة كلّ عنصر على تحقيق الإثارة والتحريض مسرحيّا من خلال الحركات والكلمات وممارسة العنف الخطابي الذي ينتقل بسرعة إلى المتلقي ونخص فئة الشباب. وبدلا من الترويج للوظيفة الأساسيّة للرياضة، وهي التفاعل الإيجابي بين المتنافسين والتعايش والتشارك في صناعة الفرحة وحماية الشباب من الطيش والجريمة، تصبح تلك البرامج فضاءات موجّهة للشحن والتحريض وتهييج مشاعر الكراهية والصراع بين أتباع الفرق والجهات والأمن والجماهير. ولا نفهم سكوت الدولة وأنظمتها على مثل هذه البرامج والسماح لها باكتساح العواطف وتوجيهها سلبيّا سواء قبل المباريات أو بعدها
يفترض المنطق أنّ السلطة السياسيّة القائمة لا يمكن أن تنخرط إراديّا وقصديّا في تمكين المواطنين من آليات هدم أركانها وزعزعة استمرارها. ومع ذلك لا نجد مبرّرا لحدوث ما يمكن أن يُفهم منه ذلك. وقد يكون توظيف العناية بالرياضة مسألة رائجة لدى الأنظمة السياسيّة غير الديمقراطية وحتى التي يكون وضعها السياسي والاقتصادي والاجتماعي أفضل، ولكنّ الحضور السلبي في الإشراف على المرفق الرياضي وتجاهل تآكل بنيته التحتيّة وسوء إدارته، حالة غير مفهومة وغير مبرّرة من زاوية مصلحة تلك الأنظمة السياسيّة، لأنّ آليّة التلهية والتخدير إذا تراجعت آلياتها وفعاليّتها تفسح المجال للوعي الحقيقي فيستيقظ بشكل وحشيّ في أغلب الأحيان، وتكون نتيجته العنف والمواجهة بين أبناء الشعب. ونحن هنا لا نتبنّى سياسة التلهية بالرياضة، بل ندعو إلى حسن توظيفها باعتبارها عامل تنمية وتربية وتوجيه إلى اكتساب العقل السليم. ولو أردنا تبئير الحالة التونسيّة نجد الدولة صاحبة الدور الأبرز في انهيار المنظومة الرياضيّة وظيفةً ونتائجَ. وتكون البداية بالقوانين البالية التي تمّت صياغتها منذ عقود وفق معطيات تجاوزها الزمن أو حسب مصلة الجهات النافذة والمهيمنة على المشهد الرياضي، ومع ذلك تأخرّت سلطة الإشراف في التغيير والتحديث، وهذا ما يتلقّاه الجمهور الرياضي ببساطة ودون عناء، فيحدّد ردود فعله في ضوء هذا الشعور باليأس. والوجه الثاني هو صمت الدولة أمام التجاوزات التي تحصل كلّ أسبوع في أغلب الاختصاصات الرياضيّة دون تحريك ساكن يعبّر عن إرادة تحقيق العدالة ومقاومة التجاوزات حتى صار الاستثناء قاعدة، وبات الاعتراف بالتجاوزات وسيلة للتندّر والبطولات على شاشات الإعلام السمعي والبصري، وتشكلّت ثقافة الدفاع الذاتي عن المصلحة بالوسائل المتاحة كلّها. والحالة الثالثة هي وصوليّة بعض المسؤولين الرئيسيين المتحكّمين في الهياكل الرياضيّة، واحتمائهم بسلطة الهياكل الرياضيّة الدوليّة غير المحايدة، واستثمارهم في الانتهازيين لبناء سلطات مطلقة فاقت في أكثر من حالة سلطة الدولة. والحالة الرابعة لسلبيّة الدولة هو الصمت على بعض البرامج الرياضيّة ذات المضمون التحريضي، والمساهمة في تكريس الصراع والتوتّر بين الجماهير الرياضيّة والجهات. ونختم بعدم قيام الساهرين على تنظيم المباريات الرياضيّة وحمايتها بدورهم المهني والقانوني من خلال السماح أو التغافل وأو عدم الاجتهاد في منع إدخال الأدوات خطيرة للملعب مثل الحجارة والشماريخ والآلات الحادة، أو السماح بعرض معلّقات مسيئة للأفراد والجهات والكيانات المعنوية مثل الفرق الرياضيّة وتغييب القانون والتغاضي عن الاجتهادات الذاتيّة غير القانونيّة في تحقيق العدالة الرياضيّة.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 11 جوان 2024