الشارع المغاربي: منذ بضعة أشهر، أعرض تسعة أعشار التونسيين عن صناديق” انتخابات تشريعية” لا نظير لها في التقاليد السياسية المعلومة. وقبل هذا الإعراض الشعبي إعراضٌ بالجملة عن لعبة استفتاء عجيب. وبعده أحوال منه بالتفصيل. وإنّ في هذه المظاهر مِن الإعراض الجماعي عمّا تدعو إليه السلطةُ رسالةً أكيدة الوصول بعثها التونسيون إلى القابض على الحكم. وفحوى هذه الرسالة هو أن شؤون السلطة التي يرأس إنما هي منفصلة عن شؤون الشعب، وأنّ بين هذه الشؤون وتلك فجوةً وانفصالا فادِحَين. ذلك أن السلطة قد انخرطت في إدارة شؤونها الخاصة المتصلة بالحكم وبِمَطايا استمراره. لكنّ الشعب الذي لم يقف على شؤونه في هواجس السلطة قد انكفأ أغلبُه على ضنك عيشه، في عزلة عن رأس السلطة الذي استصفى نفسه بنفسه ترجمانا أحاديا لأشواق شعب اختارها له اختيارا فرديا ولم يخترها ذلك الشعب، لأنها ليست بأشواقة. وإنّ الحصيلة الراهنة هي حاكم في “جزيرة مسار” معزولة عن أغلب شعب هائم في وادٍ من العيش غير ذي زرع ولا خبز ولا أمن.
1/الفجوة بين الشعب والسلطة:
ليس أخطر على العقد المجتمعي الجامع من اتساع الفجوة بين الشعب والسلطة الحاكمة، لا سيما إذا كانت هذه السلطة متهاويةَ المؤسّسيةِ فرديةً. وتتأكد هذه الفجوة حين تدور دواليب السلطة على ذاتها، وعلى هواجس حاكمها وصراعاته من أجل دوامها ودوامه، في معزل عن أفاق الإنتظار الشعبي، وعن سُلّم مطامح الكافة أو الأغلبية، وعن أسباب التّيسير لمعاشهم.
وتتأكد هذه الفجوة حين لا يكون لصوت الشعب البائس صدى صادقا فعليا لدى السلطة، وحين لا يكون لصوت السلطة صدى لدى الشعب بعد خيبات متتاليات من الأقوال الرسمية الواعدة طورا، والمتوعّدة طورا آخر بالويل والثبور لِمَن يقال على الشياع إنهم أهلكوا زرعَ الشعب وضَرعه، فلا الزرعُ قد نَبَتَ ولا الضّرعُ قَد دَرَّ، رغم سياسة الطاعة مقابل الغذاء، ورغم استزادة البقرات الرّبّانية.
وتتأكد تلك الفجوة حين ينقطع بين الشعب والحاكم عقد الثقة. فَمِن بُنود هذا العقد أن يرى الشعب في الأقوال التي تَعِده بها السلطةُ التزاما بالأفعال الجالبة لمنافعه، وأن يرى هواجسَه عالقةً في هواجسها إنْ لم تكن هي هي.
وبخلاف ذلك، يُنبئ التاريخ القريب والبعيد عن مخاطر عالية السقف تهدد عامة العقد المجتمعي.فقد ينفرط هذا العقد، لا سيما إذا كان هشا، إما بين التشكيلات المجتمعية التي تؤلّف الشعب، وإما بين الشعب والسلطة ، فضلا على احتمال الأمرين معا. فقد يرتد بعض الشعب على بعضه الآخر، لا سيما إذا تراخى الحرص الأمني مثلما نرى اليوم، وإذا اتّسعت الهوةُ الإجتماعية بين طبقاته، وإذا اضمحلت الطبقة الوسطى التي من دونها لا يستوي أي مقدار من التوازن.
و قد يرتد الشعب، بعد طول صبر وصمت، على السلطة ارتدادا صاخبا ساخطا عنيفا. فكلما أدار الشعبُ ظهرَه عن السلطة، يائسا منها، عاد إيها في لحظة مّا، ودون سابق إنذار أحيانا، عودا عنيفا قد يأتي على السلطة وعلى عقد الدولة ذاته.
2/التونسيون وحاكمهم:
بين التونسيين وحاكمهم الأوحد فجوة آخذة اليوم في الإتساع المنذر بوخيم العواقب. فهاجس السلطة الظاهر هو إدارة شؤونها الحُكمية والإنتخابية المبكرة، ومشاريعها “القاعدية والمجالسية والمجلسية”، واختراع ألوان من التلهية بتعليق الإخفاق على شماعة” الأباطرة والمتآمرين” على مصالح الشعب “، والذين “تعرفهم” السلطة ولا تعرف كيف تكفّ أذاهم ، أو تقوم إزاءهم بعمليات استعراض للقوة عارضة، وقتية.
وفي الواقع اليومي اليوم أسعار لاهبة لم تنطفئ بالإعلان عن سقف أسعار أو سقف ربح إعلانا تَذرُوه الرياح في اليوم الموالي. فأين دنانير الموز الخمسة المعلنة رسميا مِن السبعة عشر دينارا المكرسة فعليا!. وأين المراجعة المعلنة لنظام المخابز وأحجام الخبز وأنواعه مِن مشاهد الطوابير اليومية إلى حدّ أن الحصول على الخبز اليومي صار هاجسا لدى المواطن كامل أيام الأسبوع ، وصار يبكّر إلى الاصطفاف في سبيله تبكيرا يبعث على الحنق! وكيف سيكون الأمر حين تفتح المدارس أبوابها وحين ينضاف هاجس الخبز إلى هواجس اللوازم المدرسية التي تنذر أسعارها باللّسع ! وكيف نفهم إغارة مواطنين منذ أيام على شاحنة دقيق في الحمامات غير المحسوبة على أحزمة الفقر والخصاصة! هل صار الدقيق حريا بذنب الإغارة عليه؟! هل نحن في تونس التي نعرف!؟
إن إدارة السلطة الفردية ل للشأن العام هي اليوم إدارة إدارة له على مقاس إدارتها لشؤونها. وبقدر ما قد يصعب استبعاد التعمّد المسكون بالحُكم، يتأكد الإفتقار إلى الكفاءة لدى المؤمّنين على الشأن العام.
وفي كل الأحوال، لا يقاس تصريف الشأن العام بالنوايا الحسنة أو السيئة، وإنما يقاس بالنتائج. وإن النتيجة التي لا ينكرها اليوم الملاحظ غير المنحاز هي قصور رسمي مركّب عن واجب جلب المنافع الضرورية للمواطنين. وهي خاصة هروب رسمي إلى الأمام بالتّنصّل من الإفصاح عن مكمن القصور، بمكاشفة المواطنين بحقائق أوجاعهم وأوجاع البلاد.
ولعل هذه المكاشفة كفيلة بالحد من الفجوة التي بين المواطن والسلطة، لأن الوضع اليوم هو خطاب رسمي لا ينصت إليه المواطنُ، ووجع مواطنيّ لا تنصت إليه السلطة إنصاتا يتلوه فعل. ذلك أن أغلب المواطنين اليوم لا يسكن خاطرَهم الجمعيَّ ما يقوم به رأس السلطة وهو يختطّ “مساره القاعدي”أو يعاود صياغة عقد الدولة السياسي. ولئن حرص رأس السلطة، على ما يبدو، على أن يصرف المواطنين عن الشأن السياسي، ولئن عمّقت مصاعب العيش الراهن ذاك الإنصراف، فإن ذلك ليس بنجاح للسلطة وإن مِن منظور نفعيّ لها حَسٍير، فكيف بالمنظور الوطني العام . ذلك أن المواطن اليائس ، الخامل سياسيا، المنطوي على أوجاعه اليومية إنما هو مواطن سلبي. والأفدح من ذلك أنه مواطن صَمُوت صمتا نذيرا بالإنقداح النّاري، أو صمتَ مقدمة لشعب الرعية الذي ينزل بكيانه الفردي والجماعي إلى ما دون المواطنة. فهل مِن عقد دولة حديثة تسوس مَن هُم دون منزلة المواطنة! وإذا كانت هذه هي غاية رأس السلطة، فلعل الأولى به أن يفهم أن هذا المقصد ليس بمتاح في بلاد أنشأ أسسَ دولتها وثوابتها مؤسسون قادهم الزعيم بورقيبة.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 29 اوت 2023