الشارع المغاربي : يستعدّ حزب نداء تونس لعقد مؤتمره الانتخابي الأوّل في بداية شهر مارس 2019. وبذلك يُفنّد تشكيك رئيس الحكومة يوسف الشاهد في انعقاد المؤتمر ووصفه بأنّه “خرافة أمّي سيسي”، لكنّه في المقابل قد يؤكّد توصيفه بأنّه سيكون “مؤتمرًا على القياس”، لتمضي بقايا النداء مجدّدا في تشتيت ما هو مُشتّت ولا تُبقي إلّا على الحافظ نجل الرئيس. هذه قراءة لضمور هالة التأسيس والتلبيس!…
كان من الصعب التوقّع، أواخر ديسمبر 2014، بأنّ الحزب الأوّل الفائز آنذاك في الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة سينشقّ سريعاوينقسم إلى حوانيت سياسيّة متنازعة تقتات من تقرّحات بعضها البعض، وبأنّه سينقلب على نفسه ويتحوّل إلى صفوف المعارضة وتحديدا معارضة شقوق وشظايا حزبيّة لم يُنتجها إلّا قلب الحزب، بعناية فائقة من المؤسّس وتنفيذ النجل المدلّل. ولولا ما أثارته العمليّات الإرهابيّة الثلاث الكبرى، عام 2015، من توحيد للتونسيّين زمن البلاء الأكبر لانطلق مسار الاستبعاد المحتوم بشكل أسرع، ولاسيما في ظلّ رفض الكثيرين من أنصار الحزب التحالف الهجين مع حركة النهضة تحت عنوان التوافق المبِين.
مسؤوليّة الفشل!
عوامل عدّة قادت حزب نداء تونس إلى الفوز في انتخابات 2014، لكنّأغلبها قد تلاشى اليوم. ومن بينها أنّ “الكاريزما” التي نجح الباجي قايد السبسي في تكوينها لنفسه وبفضل أصدقائه زمن حكم الترويكا، عامي 2012 و2013، قد تفتّتت هالتها الأولى بمرور الأعوام. فبعد الإقدام على التحالف مع حركة النهضة على امتداد أربع سنوات، أضحى من العبث خلال العام الانتخابي إعادة تصعيد مسألة التنافر الأيديولوجي وتهديد النمط المجتمعي التونسي واستقواء الإسلام السياسي. وهذا على الرغم من انكشاف تمسّك جماعة الغنوشي بمرجعياتها المعادية لبعض أهمّ مقوّمات الدولة المدنيّة، بدليل رفضهاتنزيل المبدأ الدستوري والحقوقي المتعلّق بالمساواة الكاملة بين الجنسين وفي مقدّمتها المساواة في الميراث.
ورغم هذا الإحراج السياسي في تدوير الشعارات السياسيّة ذاتها، فإنّه لم يبق أمام قيادة حركة نداء تونس إلاّ المضيّ في إعادة صياغة مسألة الحفاظ على التوازن السياسي، وذلك من باب أنّه لا أحد غير حزب النداء قادر على مواجهة مشروع الإسلام السياسي. وهذا تحديدا ما جاء في كلمة رئيس الهيئة السياسية للحزب حافظ قايد السبسي خلال اجتماع اللجان الجهويّة لإعداد المؤتمر يوم الأحد 6 جانفي الجاري. فقد اعتبر أنّ نداء تونس “يبقى هو المرجعيّة الأساسيّة للتوازن السياسي في البلاد”. كما أكّد، في المضمار نفسهأنّه لا وجود ولا مكان في الساحة السياسيّة اليوم إلّا لمشروعين سياسيّين فقط، وهما مشروع حركة النهضة الممثلة للإسلام السياسي ونداء تونس باعتباره مشروع الحركة الوطنية المعاصرة، حسب ما ذهب إليه، مُقصيًا بذلك أيّ أفق سياسي بديل يحدّ من حالة الاستقطاب الثنائي المنتشية بأسبقيّة الغنيمة والقبيلة… والواضح هنا أنّ نجل الرئيس، وهو على أبواب المؤتمر الانتخابي الأوّل لنداء تونس، إنّما يسعى إلى التغطية على تفاصيل الأزمة المتفاقمة لحزبه أو الشقّ المتبقّي منه من خلال استحضار الخطوط العريضة نفسها للحملة الانتخابية لعام 2014. والحال أنّ الهدف الأوّلللمؤتمر يتمثّل في إضفاء شرعيّة انتخابيّة على قيادة النجل للنداء،تخفيفا لشرعيّة التوريث الحزبي والسلطوي التي منحه إيّاها الوالد المؤسّس.
ومن الأهميّة، في هذا السياق، التذكير بأنّ حزب نداء تونس، تحت قيادة حافظ قائد السبسي، قد خسر إلى حدّ الآن حوالي نصف كتلته البرلمانيّة. وهو ما يكشف فشل مشروع الأب المؤسّس الذي بُني في البداية على تنوّع روافدهوتعدّد توجّهات أنصاره وقيادييه، وعلى التجميع والتوحيد لا التفريق والتشتيت.
وليس من التجنّي كذلك الإقرار بأنّ الباجي قايد السبسييتحمّل المسؤوليّة الأولى في ما بلغته أوضاع حزب نداء تونس، وانعكست على أوضاع البلاد برمّتها. فقد انقاد إلى التصرّف في الدولة بمنطق الأجداد من الحكّام “البايات” الذين يضعون أنفسهم في مقام خليفة الله في الأرض، فيولّون الوزير الأكبر ويعزلونه متى شاؤوا بمجرّد تحريك سبّابة اليد. ولا غرو أنّه نجح في البداية في الإطاحة برئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد برفع سبّابته، لكنّه وُوجه بملء الكفّ حينما سعى إلى تكرار السلوك “المخزني” ذاته مع يوسف الشاهد، فأنْ يكون هو من اختاره رئيسا للحكومة لا يعني أنّ في إمكانه التضحية به متى أراد وشاء. وهو ما يعكس الإصرارعلى رفض استقراء ما جدّ من تغيّرات في خارطة التحالفات السياسيّة قبيل فترة قصيرة من الانتخابات المقبلة، رغم ما قد تُخفيه للجميع من مفاجآت…
استمرار النزيف
السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو: هل يمكن لمخرجات مؤتمر نداء تونس أن تحلّ الأزمة المتفاقمة التي استوطنت الحزب؟ قد تبدو عمليّة إنقاذ نداء تونس ممكنة نظريّا، لكنّ المؤشّرات الأخيرة تجعلها مستبعدة جدّا على أرض الواقع والإشكال يكمن تحديدا في المكابرة القصوى التي لا تزال تُعشّش في أذهان المؤسّس واالنجل ومؤثّثي الشقّ المتبقّي في حزب النداء.فلا يخفىأنّ أبسط مقوّمات المنطق تُنبِئ بأنّ من تسبّب في إفشال المشروع لا يمكنه بأيّ حال من الأحوال أن يتولّى إعادة بنائه. وهل ننسى كذلك أنّ الثورة، رغم تشكيك المشكّكين، قد شكّلت زلزالا جعل التونسيّين يقرّرون نهائيّا أفول عهد التوريث السياسي بأيّ شكل من الأشكال. ولا بأس إذن من التذكير بمصير “الطرابلسية” من أصهار رئيس النظام السابق وما ارتدّوا إليه. وتكفي الإشارة أيضا إلى الكمّ الهائل من النقد والتندّر الشديدين الذي طال رفيق عبد السلام صهر رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي بسبب فرضه وزيرًا للخارجيّة، بصرف النظر عن مدى كفاءته من عدمها. وليست تلك التسريبات المنفلتة عن أحد الاجتماعات المغلقة لقيادة نداء تونس ببعيدةٍ عن أذهان من يأبى النسيان، حين طمأن حافظ قايد السبسي مرافقيه من قياديي الحزب بأنّه لا خوف عليهم مادام الوالد جالسًا في الكرسيّ المهاب بقصر قصور قرطاج!.
ومن السقطات الأخرى لقايد السبسي الابنأنْ ذهب به الهذيان إلى حدّ التصريح، خلال افتتاح أشغال ندوة اللجان الجهويّة لإعداد المؤتمر، بأنّ نداء تونس موجود في الدولة عبر رئاسة الجمهورية التي قال إنّها لا تزال “تابعة” للنداء، وكأنّ مؤسّسة رئاسة الجمهوريّة مجرّد حانوت أو مخزن يحفظ فيه الحافظ أرشيف حزب الرئيس المؤسّس…
مؤتمر نداء تونس ليس أيضا بمثابة “قطوس في شكارة” مثلما قال يوسف الشاهد،في حواره على قناة “التاسعة”. فمن المتوقّع أن تستمرّ جماعة حافظ، وخصوصا الحزام الحزبي المستفيد منه، في إنارة المشاعل أمام ناظريْه عملا بمنطق المثل الشعبي التونسي المعرّب “معيز ولو طارت”، وفي إقناعه بأنّ له مستقبلا سياسيّازاهرا لابدّ من الدفاع عنهبأظافره وأسنانه بوصفه هو الأفضل والمفضّل. وفي هذا الاتّجاه تحديدا يمكن أن نفهم معنى “قاعدة الأفضليّة” التي تحدّث عنها حافظ قايد السبسي، في تدوينة نشرها الأسبوع الماضي، داعيا في متنها “الندائيين” إلى “المساهمة في المؤتمر الانتخابي القادم للحزب.
ومن المفارقات أنّ حزب نداء تونس يستعدّ لخوض غمار مؤتمره هذا، في ظلّ وجود أمينه العام المستجدّ خارج البلاد مُتهرّبًا من دعوة قاضي التحقيق في قضيّة “تآمر وانقلاب”، استحدثها سليم الرياحي ثمّ أغلق القضاء ملفّها لأنّه لم يكن قادرا على تحمّل مسؤوليّة المضيّ في أطوارها، فضلا عن غيرها من الشكاوى والقضايا التي ترمي الأمين العامجدّا بالتلاعب المالي والاحتيال… هكذا يبدو إذن المنحدر الذي ارتدّت إليه مناورات الشقّ المتبقّي من نداء تونس، بعد الاقتران بـ”حزب توّا” والآن للنفخ في كتلة برلمانيّة أصابها مرض هُزال. فقد خضعت لحِمية تخسيس وحشي لم تزد إلاّ في تعميق قتامة الصورة المخيّمة على حزب النجل والرئيس المؤسّس.
وفي المقابل مضى قائد السبسي الابن، خلال هذا الاجتماع التحضيري للمؤتمر، في لعب دور الضحيّة.فاتّهم رئيس الحكومة الحالي بالتحيّل على انتخابات 2014.وكأنّ يوسف الشاهد قد عيّن نفسه بنفسه رئيسا للحكومة، لا حركة نداء تونس ورئيسها المؤسّس، أو هو من نصّب نفسه رئيسا للجنة الـ13 التي أشرفت على مؤتمر الحزب المنعقد في سوسة يومي 9 و10 جانفي 2016، ممّا أتاح لنجل الرئيسآنذاك الهيمنة على سلطة القرار في الحزب. ومن ثمّة عمّق مسار الانشقاقات والانقسامات والاستقالات التي سبقت تلك المرحلة أصلا، ولكنّها لا تزال متواترة بكثافة إلى حدّ هذه الأيّام، وآخرها استقالة النائب بالكتلة البرلمانيّة للحزب محمود القاهري ووزير الشباب والرياضة الأسبق والقيادي بالنداء ماهر بن ضياء. فقد أضحى “حزب نداء تونس في حالة عطالة تامّة”، على حدّ توصيف قياديّ آخر مستقيل.
تفيد كلّ المؤشرات إذن بأنّه من غير المتوقّع أن يأتي مؤتمر نداء تونس المقبل بما هو جديد لإنهاء “الخرافة” القديمة. وعلى الأغلب أنّه سيُفوّت مرّة أخرى فرصة ثمينة لجمع شتات الحزب المتشرذم، ولن يقبل بالخروج من بوّابة واسعة تُبقي على ماء الوجه. فمن الصعب جدّا أن يكُفّ آل قائد السبسي عن محاولة فرض المقولة المنسوبة إلى المسيح: “من ضربك على خدّك الأيمن فأدِرْ له خدّك الأيسر”. كما لا يُرجّح أن يستوعب البعض أنّ آخرَ الطبّ الكيّ وأنْ يقبل بإجراء عمليّة جراحيّة لانتزاع زوائد ثبتَ أنّها سبب الداء والبلاء.