الشارع المغاربي: 1/لماذا تهيمن على الفعل السياسي في بلد كتونس طبقةُ “الخبثاءِ” من الساسة؟.
2/كيف يقع جمهورُ”الأغبياء” في شباك الساسة الخبثاء؟
3/لماذا يتخلى عموم “الأذكياء”، على أكيدِ قدراتهم عن مُمَاحكة الخُبثاء في الفعل السياسي؟
4/لماذا ينسى الساسةُ الخبثاءُ ما بينهم من عميق التناقضات فتجتمعَ كلمتهم على معاداة كل منازعٍ لهم في الفعل السياسي منحدرٍ من طبقة الأذكياء؟
تنهض هذه الأسئلةُ على فرضيّة تقسيم المجتمع على الجملة، والمجتمع السياسي على التّخصيص، إلى” طبقات” ثلاث؛ الخبثاء والأذكياء والأغبياء. وقد ينطلق هذا التقسيم الفضفاض على عامة مناحي الحياة المادية والمجردة انطلاقا به يكون توازنُها وتكاملها. فلو قام التماثل مقام الإختلاف لتعذّر التوازنُ والتكامل ولترسّخ الصدامُ.
في تعريف غير اختصاصي، “الخبثاء” هم الحائزون على مقادير من الذكاء متفاوتة لكنها أكيدة. وأهم ما يختصون به هو استعمال الذكاء استعمالا نفعيا انتهازيا طليقا من ضوابط القيم العليا ومن المعايير الأخلاقية ومن التعفّف عن دوس الآخرين ومصالحهم كلما ألقى بهم الدهر في مَمشَى مصالح الخبثاء.
و”الأذكياء”هم ذوو الملكات الذهنية العالية بمختلف منازلها، المتقيّدون في استعمالها وفي التصرف وِفقها بالمحمود من القيم والرفيع من الأخلاق. وعادة ما يتراجعون عن المنافع الخاصة إذا كانت غير نزيهة وكانت السبلُ إليها غير سوية.
و”الأغبياء” هم ذوو القدرات الذهنية المحدودة، والملكات الحدسية والتحليلية القاصرة، والتحصيل المعرفي الواهن. وغالبا ما تكُون هذه الطبقةٌ من الأغبياء المجالَ الذي يتحرك فية الخبثاءُ والأداة التي بها يحصّلون منافعهم سواء في المجال السياسي أو في خلافه. وفي أحسن الأحوال ينال الأغبياء من تلك المنافع الفتات. وقد يَجنُون الجراح فحسب.
إلى هذا الحد يبدو التّلَابُسُ ثنائيا مقصورا على ما بين الخبثاء والأغبياء، من جهة أن هؤلاء وقودٌ لأولئك، ومن جهة أن الطبقة التي بخلافهما، أي طبقة الأذكياء، لا صلة لها بهما. لكن الحقيقة التي نفترض ليست كذلك. فلا صلة بين الخبثاء والأغبياء إلا بواسطة الأذكياء. فكيف ذلك؟.
بعد سنة 2011 صار مُتاحا تَبَيُّنُ هذا الثالوثِ وتمايزه. فقد صعد الخبثاء إلى سطح الفعل السياسي مدفوعين بقوى ذات شأن. ظهروا بمكرهم وخداعهم وضحالة أخلاقهم السياسية والسلوكية. ظهروا أوعية صَدِئة يحوي أكابرُها أصاغرَها. لم يكن الاختلاف بينهم معيارا مهما لِمَا بينهم من وهميّ المسافات. كان المشترك بينهم هو الأغلب ، وهو خبثهم مَعدنا لهم راسخا لا تصقله المطارقُ.
اشتق هؤلاء من خبثهم خطابَهم الخادع. صاغوه من مراجع”الثورية” و”الورع” و”الحداثة” و”ديمقراطية” و”التوافق” السمح من أجل “الرخاء العميم”. ورشّوا على أطباق الرخاء الآتي”ثروة الملح” وأوقدوا ناره”بثروة الغاز والبترول”. ونفخُوا في جيوب الأغبياء لِتَستوعب ما سيتأتّى من”الأموال المفسودة” على أيام الإنحراف الثوري ومن”الأموال المنهوبة” على أيام ” العهد البائد”، لأن هذه وتلك هي”أموال الشعب تعود إلى الشعب”. وتلاعبَ الخبثاء بالمواقف، ونكثوا العهود، وعلّلوا إخفاقهم بالحجج الواهية. وصرفوا أنظار الأغبياء إلى السراب كلّما علت شكواهم ؛ سراب الإستئنافِ”للإنفجار الثوري” الذي سَتَضَّاءُ شهبُه من قمم”البناء الشاهق”. لقد نفَق كل هذا ونحوه على الأغبياء ولمّا ينقطع، وقد مرّت إثنتا عشرة سنة.
على ذلك ينعقد في المجال السياسي المحمول على الصّراع “توازنٌ” جائرٌ غير دائم بين الخبثاء المتحيِّلين والأغبياء المُتَحيَّل عليهم. فلو ضمّ هذا المجالُ الأغبياءَ دون سواهم لانقدحت نارُ الصدام بين صخور الغباء انقداحا متصلا. ولو ضم الخبثاء وحدهم لانقدَحت دوما بالحديد يُحَاكِكُ الحديدَ. فكيف يستغفل الخبثاءُ الاغبياءَ وما هو محل الأذكياء من ذلك؟.
لو كانت العلاقةُ ثنائية فقط لما استغفل الخبثاءُ الأغبياءَ استغفالا متّصلا. فإذا نجحوا في ذلك فإلى حين. ذلك أن للخبثاء بِنًى ذهنية وشخصية وأخلاقية مقدودة من خبث غالب. ولا يمكن أن يدوم تنكّرٌهم لإخفائه حتى عن الأغبياء.فالقيم المحمودة لديهم إما غائرةٌ في قاع الخبثِ وإما قتِيلَتُهُ. فاستِنهاضُهم إياها عند الحاجة إلى المناورة لا يطاوعهم دوما ، لأنه استنهاض مفتعل كالتّطبّع يغلبه الطّبعُ. ثم إن خبثهم الغالب عليهم كالتّأصّل إنما يَجري لديهم مجرى مَجرَى”الفطرة المكتسبة” التي قد تخذلهم.
و ها هنا يندرج دور الأذكياء. فهُم ، مجتمعيا، مستودعاتُ القيم النبيلة وحَمَلةُ الفطنةِ الخَليقةِ والنباهة القويمةِ والأفق الفكري الفسيح. إنهم مُرَوِّجو القيم المحمودة ومُنَّاعُ أن تندثر. وإنهم خاصة حُفَّاظُ استمرارها، وحُماةُ مراجعها الأصيلة القديمة قِدَم الإنسان مُذ تخطى طورَ الطبيعة والتّوحّش. وبهذا الدور الذي يضطلع به الأذكياءُ تَنحَفِظُ القيمُ المحمودة في المجتمعات فَتَتَمَرَّرَ إلى الأغبياء فيتشرَّبوها بسذاجة غالبة، فتكونَ لديهم محمولا ثقافيا وأخلاقيا راسخا. وإن هذا المحمول هو الزاوية التي يَنفُذ مِنها إليهم الخبثاءُ . ينفُذون إليهم بِدَغدَغَةِ ذلك المحمول دغدغةً تشبه العزفَ على أوتار كامنة فيهم. بذلك يَتسنّى للخبثاء التّحكمُ في الأغبياء وتطويعُهُم على مقاس خبثهم .
لنفترض جدلا أن الأذكياءُ يكفّون مثلا عن ترويج قيمة العدل كفّا متصلا إلى حدّ تَلاشِيها من مراجع المجتمعات. ففي هذه الحال ستنتفي قيمةُ العدل من محامل الأغبياء القيمية. ولن يقدر الخبثاءُ على أن يطوعوا لفائدتهم الأغبياء بمخاطبتها فيهم واستنهاضها لاستنهاضهم إلى حيث يَخطّ خبثُهم. ولو اضمحلّت قيم الوطنية لما ماتَ من أجلها الأغبياءُ الفقراءُ ليهنأ بالوطنية الأثرياءُ وليحكم الوطنَ بعد ممات أولئك” الشهداء” الخبثاءُ غالبا. ولو اضمحلت تلك القيمةُ النبيلةُ بين أبناء الوطن الواحد لما صار الأغبياءُ قطيعا يوجّهه الخبثاءُ إلى ما يريد خبثُهم لا إلى ما يريد الوطنُ.
إن الأذكياء هم، بهذا الدور، السُّقاةُ لبستان القيم بماء الحياة. إنهم ، عن غير قصد وعن غير تعمّد أو إظمار، واسطة يسطُو بها الخبثاءُ على مُهَج الأغبياء. لكن الأذكياء ليسوا دوما صفا واحدا في هذا الدور الذي تَجلُوهُ السياسةُ على وجه الخصوص، فَيُخَتَبَرَ فيها. إنهم كثرة وقلة. إنهم كذلك في بلادنا وفي غيرها. أما الكثرة فهم الذين ترافق السلبيةُ السياسيةُ اضطلاعَهم بالدور ذاك. وهذه السلبية هي تَهرُّبهم من مقارعة الخبثاءِ مقارعةً سياسية “ميدانية” ومن مواجهة ضحالتهم وبؤسهم. وبهذا التهرّب يتركون للخبثاء مجال أن يصبغوا الفعلَ السياسي بخبثهم وإن يكرسوا فيه ذاك البوسَ وتلك الضحالة. وبهذا التكريس حكَم الخبثاءُ على الأذكياء بالطرد من الفعل السياسي، وحكم الأذكياءُ على أنفسهم بأن يقصروا دورهم ، في أفضل الأحوال، على الانشغال بالسياسة انشعالا فكريا متعاليا، محكوما وجوبا بالانقطاع عن جمهور الأغبياء الواقعين تحت سطوة الخبثاء.
ووفق هذا الوصف قد نفهم لماذا اكتسحَ الفعلَ السياسيَّ في تونس اليوم الخبثاءُ مُفلِسُو الأذهان وغاب عنه الأذكياءُ أثرياؤُها.
وإما القلة من الأذكياء فيمثّلها أولئك الذين يقارعون الخبثاءَ في الفعل السياسي. إنهم يُقارِعُوهم بتفوّق، لأنهم مسلحون بمزيّتَين. الأولى هي فَهمُهم لخبث الخبثاء فهما تفكيكيا واعيا. والثانية هي امتيازهم عليهم بالقدرات الفكرية والاستقامة الأخلاقية. لذلك كلما ألقى أحد أفراد هذه القلة بثقله في الفعل السياسي المباشر تآلبَ عليه الخبثاءُ جبهةً واحدة ، متناسين ما بينهم من تناقضات وحروب. ذلك أن خبثهم ، بما هو قاسم مشترك ، يذوّب ما بينهم من خلافات للتصدّي للعدو المشترك الذي هو السياسي الذكي. إنه خطر محدق بهم وبخبثهم . فهلاّ استفاق الأذكياء من غفوة سلبيتهم للانخراط في الفعل السياسي انخراطا يسحب البساطَ من تحت أقدام الخبثاء؟. إن سلبية الأذكياء السياسية هي خدمة أكيدة للخبثاء وباعة الوطن.
نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 30 اوت 2022