الشارع المغاربي: المضاربون، اللوبيات، الفاسدون، المتآمرون لتوتير المناخ الإجتماعي، المحتكرون، الماسكوني لمسالك” التجويع”، المهربون الخ…تلك هي محاور الخطاب السياسي”القيسي” . وهي المحاور التي بها يشرح للشعب التونسي أسباب بؤس أغلبه، ويوجّه التّهم إلى من يراهم ضالعين في التجويع وفي شح السلع الأساسية وفي ارتفاع الأسعار ارتفاعا يصعب على المواطن تصديقُه لولا لوحات التّسعير أو أجوبة الباعة.
1/خطاب الحرب:
تقترن تلك المحاور، في خطاب قيسي ذي جناح واحد، بسجل التخوين لمن براهم على الشياع أباطرة الإحتكار لقوت الشعب والتآمر على معاشه. ويبني الخطاب على ذلك سجِلا حربيا يتخلله الوعيد لأولئك “المضاربين” بحرب تطولهم في ” البر والبحر والجو وتحت الأرض”.
وإن هذا الخطاب الذي هو من جنس تهم”الغرف المظلمة” السياسية قد تصاعدت حدته في الفترة الأخبرة من تصاعد المعاناة المعاشية الشعبية ومن ندرة المواد الأساسية ومن نار الأسعار الحارقة. ثم إن هذا الخطاب الذي صار يدور على ذاته، لا يستوي قبول دورانه ذاك، لأن صاحبه ماسك لكل السلط وكل الهياكل وكل الأجهزة واتمام قوة الدولة. فهو مطالب بالفعل بعد القول.
وعلى ذلك، كان ينبغي أن ينكفّ هذا الخطابُ المكرر من توقف المعاناة ومن حسن إدارة أسبابها. فلا معنى لاستمرار هذا الخطاب، ولا معنى لاستمرار دواعيه طيلة عامين كاملين.
/2زيارات الدخول بقوة:
في زيارات” فجئية” مصورة من الأعلى، ومن الجوانب ومن الواجهة، وفي اقتحامات للمَحالّ والمقرات، تابع الرئيس قيس سعيد أماكن الإحتكار التي ثبت أنها ليست كلها كذلك، ومسالك التوزيع أو”التجويع” بعبارته والإحتكار، في ولاية منوبة، وإحدى شركات مواد البناء في ولاية بن عروس، وأخرى في ولاية زغوان الخ… فضلا على مداهمات بالقوة أحيانا للمقررات “المشبوهة”.
وقد تعلقت بذلك إقالات لولاة واوزاء التجارة والفلاحة وللرئيس المدير العام لديوان الحبوب. ومع ذلك لم تعتدل الأسعار ولم تزل طوابير الحصول على الخبز وغيره من المواد كالأرز والقهوة والزيت النباتي المدعم.
/3التهرب من المسؤولية:
لم ينقطع عن خطاب سعيد هاجس التآمر عليه لإفشال “مساره”. وإن هذا الهاجس محكوم باحتمالين اثنين. أحد الإحتمالين هو أن هذه المؤامرات حقيقة قائمة وليست مجرد أفعال صادرة عن شجع تجاري أو هي ملف مبالغ فيه. الإحتمال الثاني أنها ليست هذا ولا ذاك.
وإذا كانت حقيقية ، بصورة أو بأخرى، فإن سنتين كاملتين من اليد السلطوية المطلقة كافيتان للإدارة القانونية بالأباطرة والمضاربين والمتآمرين والمحتكرين ولكف أراهم المفترض. ولما تواصلت المعاناة الشعبية وتواصل الخطاب القيسي المُشهّر بهم ، فإن الخلاصة اليسيرة هي أن السلطة المركزة في شخص واحد قد أخفقت في إدارة هذا الملف وفي السيطرة على المورطين فيه.
وإذا لم يكن الهاجس حقيقيا، وأن هذه التهم ليست في محلها أو ليست من أمهات أسباب المعاناة الشعبية، فإن الخلاصة هي أنّ الخلل يكمن في السياسة العامة المنتهجة، وفي جملة القائمين عليها. وفي هذه الحال يكون خطاب سعيد الإتهامي على الشياع والدوام هو خطاب تهرب من المسؤولية والتغطية على القصور، وإرجاع الأمر إلى المؤامرات التي لا تنتهي. وإن الإتجاه إلى خطاب الإتهام الذي يشبه خطاب من هو خارج السلطة، إنما يمنح به الرئيس سعيد لنفسه وضعا مريحا يصوغ به خطابا شعبويا لا ينفق إلا على ذوي الغفلة.
و إذا لم تكن السلطة مقصرة أو عاجزة،فكيف نفسر سلسلة الإقالات التي غالبا ما لا تعوَّض والتي شملت رأس الحكومة ذاتها، والتي يتّصل أغلبها بهذا الشأن المعاشي .
لا أحد في تونس يشك في أن أباطرةً ودوائر عائلية نافذة تقبض على أغلب اقتصاد البلاد. وإن التقارير الأجنبية التي لا مصلحة لها في تزييف الحقائق تقر بذلك إقرارا دقيقا. وقد نسلم بأنهم صاروا أصحاب نفوذ يقدرون به على التّفصّي من سلطة الدولة. وإزاء ذلك، لا يبدو أن الحلول الجدية هي في اتصال خطاب الإتهام والتخوين، أو في الإطاحة ببعض الأنفار إطاحة معزولة لا تتبعها نظرة موسعة تكون بها إعادة صوغ لبنية الإدارة والتشريع والرقابة وطرق العمل. وبخلاف ذلك ، فإن استمرار الحال على ماهي عليه، إدارةً ورقابةً وتشريعا،ستفسح المجال لتناسل الأباطرة والمضاربين والمحتكرين، وستدفع الخطاب الرسمي إلى مواصلة التنصل من المسؤولية ولو بتجاهل الأرقام الرسمية.
/4منطوق الأرقام:
استدعت بعض الوسائط الإعلامية الجداول الرسمية المتعلقة بميزان الواردات. وإنها جداول تنطق أرقامُها بخلاف ما ينطق به الخطاب الرسمي الذي لعله يجاهر بتلك المخالفة من باب تعويله على ضيق النفاذ إلى تلك الجداول.
تبين هذه الجداول أن الميزان التجاري الغذائي قد تراجع إلى موفى شهر جويلية ،2023 بنسبة % 14في مجال الحبوب وبنسبة نحو 21 % في محال الزيوت، وذلك قياسا على الفترة نفسها من العام الماضي. وإن حصة واردات الحبوب من جملة الواردات سنة 2022 هي أكثر من% 54 لكنها كانت سنة 2021 أكثر من% 61 .
و الواردات من القمح اللين الذي منه الخبز هي 2 , 715 الف طن سنة 2021، أي في أوج وباء الكورونة، وهي نحو 740 الف طن سنة 2022.
وإلى موفى شهر جويلية 2023 بلغت الواردات من نفس السلعة نحو637 ألف طن. لكنها بلغت في الفترة نفسها من العام الماضي 740 ألف طن. وهكذا يكون الفارق السنوي على هذا المنوال مهولا. وإن قيمة التوريد المالية في هذه السنة إلى موفى شهر جويلية 2023، هي دون 30 % من قيمة الفترة نفسها من السنة الماضية.
إزاء ذلك نستخلص أن الإشكال الرئيس إنما يكمن في ندرة مادة القمح اللين المترتبة على نقص التوريد، وهذا شأن السلطة أولا وأخيرا ، ويثبت ما تناقلته الصحف، وهو رُسُوَّ البواخر بأحمالها قبالة موانينا لأن أصحاب الأحمال لم يتسلموا الأموال المطلوبة ولا ثقة لهم في ذمة بلادنا المالية.
إن الأسباب مركبة متعددة. ولا يمكن أن نستبعد سوء الطوايا لدى بعض تجارنا ورجال أعمالنا. لكن المسؤولية الأولى إنما هي مسؤولية السلطة، لذاك لا نرى وجاهة في الهروب إلى الأمام بخطاب الإتهام الذي صار تلازمية قيسية لا أثر لما بعدها. فليس بهذا الهروب المرجّح يكون تصريف الشأن العام تصريفا واسع الأفق مبدعا ناجعا.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 22 اوت 2023