الشارع المغاربي: منذ الحرب العالمية الثانية إلى اليوم، عرَف المشهدُ الحزبيُّ في أوروبا مراحلَ ثلاثا. الأولى هي مرحلة الأحزاب التي ثبّتَتها الحربُ أوالتي انبثقت عنها. والثانية هي مرحلة ما بعد سقوط جدار برلين. والثالثة هي المرحلة التي تبلورت خصائصها في العقدين الأخيرين.
وقبل هذه المرحلة الثالثة، كانت المفاصلُ التمييزية بين الأحزاب مفاصلَ إيديولوجية تقليدية. وكان ثمّة مقدار من المعنى السياسي في تقسيمها الخماسي الرائج إلى يمين ووسط ويسار وأقصى يمين وأقصى يسار.
لكنّ هذه المرحلة هي مرحلة انحسار الأحزاب التقليدية التي كان يتحدّر منها الرؤساء والحُكام وأغلب المشرعين ومرحلة ظهور أحزاب ناشئة، صاعدة من شبه فراغ أحيانا أو متجددة، أزاحت إلى حدّ كبير المفاصلَ الإيديولوجية التقليدية وغيّرت المراجع المؤسّسة للأحزاب ولِحُدود الوصل بينها والفصل. ولعل خير ترجمان لخصائص هذه المرحلة هي الحياة الحزبية الراهنة في دول الإتحاد الأوروبي.
1/المفاهيم الجديدة في أحزاب الإتحاد الاوروبي
انحسر في دول” الاتحاد” إشعاعُ الأحزاب”الاشتراكية” المصنّفة “يسار أوروبيا”. وواصلت الأحزاب “اليسارية” الصريحة تشتّتها واقتصار حضورها على الهامش والمعارضة، رغم بعض الطفرات الظرفية. وانضاف إلى اليسار مفهومٌ جديد هو”أحزاب الخضر” التي تدافع عن البيئة قبل دفاعها عن الأجراء والعمال. ولا ترى هذه الأحزاب البيئية حرجا في مؤالفة” اليمين” لإنشاء كتلة حاكمة، كما هو حاصل اليوم في ألمانيا. وعلى ذلك التبس التقسيم التقليدي الصريح لهذه الأحزاب إلى “يسار” و”أقصى يسار”.
واضمحلّ بين أحزاب اليمين تقسيمُها التقليديّ إلى “يمين” و” وسط” و” أقصى يمين”، بناءً على اندثار الأسس الأيديولوجية التقليدية التي كان يقوم عليها ذلك التقسيمُ. ولعل “أقصى اليمين” اليوم في أوروبا هو اسم بلا مسمى، إذا استثنينا بعض الكيانات الهامشية المنغلقة مثل جماعة “آزوف” في أوكرانيا أو”النازيون الجدد” في ألمانيا والنمسا أو ربما في فرنسا حزب ” الاستعادة” الذي يقوده “إيريك زمور”.
لقد صار عموم اليمين في دول الإتحاد الأوروبي أدعى للتصنيف على مقتضى النزعة القومية مقابل النزعة الأوروبية والاستظلال بأمريكا والنزعة غير الصارمة إزاء الهجرة وخاصة نزعة الانخراط في العولمة و”الحزبية العالمية” ورأس المال المعولم. فلعل اليمين الراهن في الاتحاد الأوروبي هو قسمان،” اليمين القومي” و”اليمين العولمي”.
وإن اليمين الحاكم في كبريات دول”الاتحاد” كألمانيا وفرنسا وإيطاليا، فضلا عن بلجيكا وهولندا والنمسا الخ… هو على الجملة اليمين العولميّ. وإنّ هذا اليمين هو الذي تلقّى صفعة انتخابية موجعة إثر الإعلان مساء الأحد الفارط الموافق للتاسع من جانفي الحالي، عن نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي. ذلك أن اليمين القومي المعارض غالبا حصّل في أغلب البلدان الأوروبية المراتب الأولى أو الثانية. وفوق ذلك أظهرت النتائج فوارق هامة لفائدته على حساب اليمين العولمي الحاكم.
ولعل اليمين العولمي هذا، مَزكُوًّا بتحالفاته، قادر في الأفق القريب على أن يواصل الاحتفاظ بكيان “الاتحاد” وبِتَشَبُّكِهِ العولمي. إلا أنّ مستقبله محفوف بالغموض. فالمزاج الشعبي الناخب في عموم بلدان “الاتحاد” كشف عن انحياز لليمين القومي الداعي إلى أولوية الدولة القومية، وإلى مناهضة الإتحاد الأوروبي، وإلى استعادة الروح والهوية القوميتين، وإلى مناهضة الأمركة والعولمة.
وليس عصيّا فهمُ الأسباب التي وجّهت المزاج الأوروبي العام إلى هذه النتائج. فهي أسباب اجتماعية ترتكز على تدهور القدرة الشرائية واستفحال التضخم، وهي سياسية تدور على خضوع اليمين الحاكم لفلك أمريكا ولمقتضيات العولمة على أنقاض المصالح القومية وعلى إغداق المساعدات على أوكرانيا ومعاداة روسيا بلا موجب قومي، وهي ثقافية تدور على التمسك بالهويات الثقافية واللغوية والدينية المحلية، وهي أمنية تدور على قضايا الهجرة غير المنظمة.
لقد زلزلت هذه النتائج كيانات الدول الأوروبية الكبرى التي تقود” الاتحاد” وأكدت مجددا أن هذا الإتحاد لم يكن يوما أكثر من كيان اقتصادي تشق دولَه ومصالحَ شعوبه تناقضاتٌ تفوق أسباب تماسكه. إلا أن الضربة الأوجع هي تلك التي تلقاها اليمين العولمي في فرنسا والتي أدت إلى تبعات محلية آنية.
2/فرنسا، الضربة الأوجع:
حصّل اليمينُ القومي الذي يمثّله “التجمع القومي” بزعامة “مارين لوبان” نحو 32%. وحصّل اليمين العولمي الذي تمثله “الأغلبية الرئاسية” المؤلفة من حزب الرئيس “ماكرون” ومن ثلاثة أحزاب حليفة نحو 15%. وهي حصيلة قاصمة لهذه الأغلبية إذ هي دون نصف ما حصّلت “لوبان” منافسته في الرئاسية السابقة والقادمة على الأرجح بعد نهاية عهدة “ماكرون” الأخيرة سنة 2027. ثم إن” لوبان” هي صاحبة الكتلة البرلمانية المعارضة القوية. ولا جدال في أن هذه الحصيلة ستلقي بأثقالها على قادم المنافسات الانتخابية وربما على مستقبل فرنسا الأوروبي والعولمي الآجل. وفوق ذلك حصّلت بقيةَ المراتب أحزابٌ معارضة لليمين العولمي. فهي على الجملة أحزاب اجتماعية ويسارية مناهضة، على اختلاف المنطلقات، لأغلب ما يناهضه “التجمع القومي”.
وإن خسارة “ماكرون” الفادحة تعود إلى أسباب عامة يشارك فيها الناخبُ الفرنسي الناخبَ الأوروبي وإلى أسباب خاصة بالناخب الفرنسي. ذلك أن ماكرون تعسّف في استعمال السلطة فواجه أصحاب ” السترات الصفراء” بغير ما يرتضون، وأقر، عنوة، التمديد في سن التقاعد. إلا أن أهم سبب على الأرجح هو خضوعه للركاب الأمريكي. وهو خضوع لا يستسيغه المزاج الفرنسي. و من علامات هذا الخضوع التهوّر في الموقف من الحرب الروسية الأوكرانية، وهو موقف لا يراه الفرنسيون على الجملة متصلا بمصالحهم القومية. وليس أبلغ من أن 72% منهم يعارضون تهوّر ماكرون الداعم لأوكرانيا والذي قد يورّط بلادهم في مواجهة روسيا عسكريا.
أدرك “ماكرون” المأزق، فتحرك كعادته بتسرع غير منتظر، فأعلن عن حل البرلمان الفرنسي وإجراء انتخابات تشريعية سابقة لأوانها في موفى هذا الشهر. فما هو رهانه بهذا الإعلان الذي جعَل البعض مذهولا؟
يعلم “ماكرون” أنه ستكون لحصيلة اليمين القومي في البرلمان الأوروبي تبعات سياسية أوروبية عاجلة وتبعات انتخابية قادمة رغم انتفاء التبعات القانونية المباشرة على السياسية الداخلية. ولعل إجراء انتخابات تشريعية في بلاده قد يعيد خلط الأوراق. والأرجح أنّ رهان “ماكرون” هو على التلويح الدعائي بخطر “اليمين المتطرف” الذي تمثله “لوبان” والذي قد يستعيد به التقليدَ الفرنسي الذي هو “التصويت الموجه” كلما كان هذا اليمين في الواجهة.
لكن هذا الرهان لا يخلو من المجازفة والتهور. فليس هذا الزمن هو ذاك الذي تكتّل فيه الناخبون وراء “شيراك” لإزاحة “جان ماري لوبان” بنسبة استثنائية بلغت 83%. ذلك أن “التجمع القومي” المنبثق عن “الجبهة القومية” تخلى عن الكثير من عقيدته “اليمينة المتطرفة”. واليمين العولمي تخلى منذ عهد “ساركوزي” عن الديغولية التي كان يمثلها “شيراك” وأعاد فرنسا سنة 2005 إلى الحلف الأطلسي إعادة تكريس لليمين الفرنسي المعولم.
إنّ ما اقدم عليه “ماكرون” هو مجازفة من جنس التهور والتذبذب الذين دأب عليهما. فقد يكون الرهان خاسرا، وقد يدفعه إلى الاست
قالة. ولعل “مارين لوبان” ترجّح خسارته الرهان. فقد رحبت، مراهنة على المرتبة الاولى، بالانتخابات التشريعية المبكرة، وقالت إن حزبها حاضر لرئاسة الحكومة الفرنسية. وإذا حصَل هذا الاحتمال، فإن مستقبل الإتحاد الأوروبي سيكون في ميزان الشك، لأن” العدوى” ستتوسع أوروبيا.
+نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 11 جوان 2024