الشارع المغاربي: من مميّزات الأزمة الداخليّة الشاملة التي تشهدها تونس منذ سنوات أنّ القاصي والداني بات يُعاملها بخطاب أقلّ ما يُقال فيه إنّه يعكس نظرة تكبّر ضيّقة، لكنّها تُجسّد في الآن ذاته قصورًا في النظر وجهلا سياسيّا ماحقا. قضيّة الحال تتعلّق بالخطاب المريب لوزير الخارجيّة الجزائري إزاء تونس مؤخّرا. وهو ما يحتاج إلى إيقاظه من غفوة قد تطول…
معلوم أنّ العلاقة بين الشعبين التونسي والجزائري هي من الإخاء والتماسك ما لا يمكن لسياسيّي البلدين النيل منها، باستثناء قصار النظر والانتهازيّين والمتسلّقين العالقين في عباءة السلطة أو المعارضة هنا وهناك. وهو الحال نفسه تقريبا بالنسبة إلى العلاقات والوشائج الأخويّة القائمة بين الشعبين الجزائري والمغربي التي لا يمكن بدورها أن تعكّرها العداوة المُعلَنة بين نظامي البلدين… نقول هذا من باب المعرفة بالشيء وسدّا لذريعة سياسيّي الزمن الرديء المجرّمين لكلّ صوت مختلف. وتتمثّل حادثة الحال فيما تفوّه به وزير الخارجيّة الجزائري أحمد عطّاف خلال مؤتمر صحفي مؤخّرا. وهذا ما قاله حرفيّا: “ففي ما يخصّ تونس، استقبل رئيس الجمهوريّة مبعوثا خاصّا من تونس منذ أسبوعين، أظنّ، ورسالة من الرسائل التي حملها المبعوث التونسي هو أنّه فنّد تفنيدا قاطعا أيّ نيّة أو أيّ خطوة لتونس تُجاه التطبيع، هذا واحد. اثنين هوما راهم، قيل لي أنا شخصيّا من طرف زميلي أنّ في (هناك) قانون سيُسنّ في تونس لتجريم أو لتخوين، من الخيانة العظمى، للتطبيع مع إسرائيل”.
قد يبدو هذا الطرح بالنسبة إلى البعض عاديّا، فما الإشكال الذي يختزنه؟!
أوّلا: سمح وزير الخارجيّة الجزائري لنفسه بأن يخوض خلال مؤتمر صحفيّ في قضيّة تتعلّق بشأن داخلي تونسي يخصّ قرارًا سياديّا ليس من شأن بلاده، ولو ظاهريا على الأقلّ، ولا يحتاج لأيّ مزايدات، باعتبار أنّ التونسيّين جميعهم ضدّ التطبيع مع الكيان المحتلّ، باستثناء قلّة قليلة جدّا لا وزن لها من مزدوجي الولاء والانتهازيّين التي لا تستطيع الجهر بمواقفها أصلا.
ثانيًا: إعلان الوزير عطّاف عن اعتزام تونس سنّ قانون لتجريم أو لتخوين التطبيع مع إسرائيل، والحال أنّ السلطات التونسيّة لم تُعلن بل ولم تُلمّح مطلقا لاعتزامها اتّخاذ ذلك الإجراء القانوني الذي أثار جدلا تحت قبّة البرلمان قبل سنوات، وكأنّه يتحدّث أصلا باسم تونس ونيابةً عنها. وحتّى إن أبلغه “زميله” وزير الخارجيّة التونسي فعلا بما ذهب إليه، فإنّه من المعيب دبلوماسيّا التصريح به قبل أولي الأمر.
ثالثا: المكابرة ونظرة الاستصغار وربّما الاحتقار التي تحدّث بها عطّاف عن نظيره الدبلوماسي الذي سمّاه بـ”المبعوث التونسي” دون أن يتفوّه باسمه (نبيل عمّار) ودون أن يذكر صفته وهي وزير خارجيّة مثله ويفترض أن يتعامل معه على هذا النحو من باب الاحترام المفترض لبلد الجوار ومسؤوليها…
إلام تعود هذه الرداءة الدبلوماسيّة إذن؟! والحال أنّ الدولة الجزائريّة طالما عُرفت بوزراء خارجيّة من طرازٍ عالٍ، لا فقط على مستوى الكفاءة الدبلوماسيّة وإنّما خصوصا على مستوى قوّة الخطاب ورصانته في الآن نفسه، فضلا عن الالتزام الصارم بقواعد التعامل الدبلوماسيّة وفي مقدّمتها عدم التدخّل في شؤون الدول الأخرى… فكيف ننسى مثلا حكمة كبار وزراء الخارجيّة الجزائريّين ورصانتهم الدبلوماسيّة؟، أمثال أحمد طالب الإبراهيمي أو كذلك الأخضر الإبراهيمي الذي جاب مشارق الدنيا ومغاربها مبعوثا للأمم المتحدة في هايتي وجنوب إفريقيا والزائير (سابقا) ثمّ تباعا في لبنان واليمن والعراق وأفغانستان وسوريا ومن قبلهم عبد العزيز بوتفليقة الذي مسك مقاليد خارجيّة بلاده سنة 1963، أي بعد عام من استقلال الجزائر إلى غاية آخر السبعينات، وسطّر خلالها قواعد السياسة الخارجيّة الجزائريّة. وهي مسيرة حافلة أتاحت له بعد عقدين بالضبط رئاسة البلاد ومواصلة النهج الدبلوماسي ذاته لبلاده.
الغريب في الأمر أنّ أحمد عطّاف ليس شخصيّة نكرة في الدبلوماسيّة الجزائريّة. فقد شغل منصب سفير لبلاده في أكثر من بلد(الهند، يوغسلافيا سابقا، بريطانيا) . كما تقلّد منصب وزير الخارجيّة في مناسبة سابقة، وتحديدا عام 1996 ولم يرحل إلّا عام 1999، أي عند وصول بوتفليقة إلى رأس الحكم باعتباره كبير وزراء خارجيّة الجزائر السابقين، ويُميّز من دون شك بين الغثّ والسمين!، المقصود بذلك أنّ المسيرة الدبلوماسيّة لأحمد عطّاف تفترض أن يكون من الحصافة ألّا يقع في مثل تلك الرداءة عند الحديث عن تونس أو عن نظيره التونسي، لاسيما أنّه لم يكن يتحدّث عن عجلٍ يتسبّب في فقدانه البوصلة، بل بدَا وكأنّه يحفظ عن ظهر قلبٍ ما ردّده من عبارات بشأن تونس، أقلّ ما يُقال عنها أنّها تخلو من أيّ حسّ دبلوماسي رصين، إلّا في حالة تكليفه بذلك أو سقوطه في الفخّ المسموم للاستكبار والاستضعاف!. وهنا ينبغي التذكير بما لا ينبغي أن يُنسى، وهو أنّ تونس ليست مجرّد “ملف”، على خلاف ما تداوله الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون ذات اجتماع في روما. كما أنّ حوارها الوطني الذي يُفترض أن ينتظم ولو بعد حين ليس شأنا إلّا للتونسيّين ونُخبهم…
وبصرف النظر عن الأزمات التي تشهدها تونس، سياسيّة كانت أو اقتصاديّة، ومهما كانت حدّتها. فإنّه لا مجال بتاتًا للسكوت عن تمرير بعضهم مضامين تمسّ من استقلاليّة البلاد سواء كانوا عربًا أو غربًا أو كربًا. أمّا عن بعض التعبيرات الغريبة المتداولة بين الحين والآخر، على غرار نشر هيكل جزائري رسمي )وزارة المجاهدين( لافتة لأحد مؤتمراتها تُلغي حدود تونس في خريطة للقارّة الإفريقيّة وتجعلها جزءا من الجزائر، ثمّ تبرير نائب رئيس برلمانها بأنّ خارطة تونس ربّما سقطت “خطأ أو سهوا”، أو ادّعاء خبير اقتصادي جزائري مأبون نتعفّف عن ذكر اسمه بأنّ بلاده تعتبر تونس إحدى الولايات التابعة لها، فإنّ كلّ ذلك لا يُصنّف إلّا من ضمن الحماقات السياسيّة البذيئة التي لا تُسيء لتونس بقدر ما تُسيء لقائليها ممّن هم في حاجة لإعادة قراءة التاريخ والاطّلاع على خرائط المنطقة…
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 5 سبتمبر 2023