الشارع المغاربي: شكّل الانتشار الفظيع لفيروس «كوفيد 19» في تونس اختبارا خطيرا لقدرة البلاد على الصمود. وقد أدّى التطاحن السياسي والإفلاس الأخلاقي للقوى السياسيّة والحزبيّة الكبرى إلى تعميق حالة الخراب الشامل، إلى درجة أنّ البلاد أمست مثارا للشفقة في العالم!…
من كان يتصوّر، عام 2011، أنّ الأوضاع العامّة في تونس ستبلغ هذه الدرجة من التردّي والسوء على كافّة الأصعدة؟!. أحدث حلقة في مسلسل التراجع والسقوط الرهيب، على مرّ سنوات ما بعد الثورة، كانت نتاجًا للانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة الأخيرة، ثمّ تزامنت مع بلوغ الأزمة السياسيّة أوجها والمضيّ في الابتزاز السياسي، دون أدنى مبالاة بالانتشار المفزع لجائحة كورونا. وفي المحصّلة، أمست الدولة التونسيّة التي كان نظامها الصحّي رائدا دوليًّا تُقارن بالدول الأكثر فقرًا وسوءَ تصرّفٍ وفسادًا وعدمَ استقرارٍ وشبهَ عجزٍ عن الإيفاء بالتزاماتها. وبنظرة سريعة إلى خارطة آثار جائحة كورونا إفريقيّا يمكن استيعاب الأوضاع التي نعيشها. فوفق مؤشر انتشار جائحة كورونا في العالم (Worldometers)، تأتي تونس في المرتبة الثالثة في القارّة الإفريقيّة على مستوى عدد الإصابات بفيروس «كوفيد19» بعد جمهوريّة جنوب إفريقيا والمملكة المغربيّة، في حين تحتلّ المركز الثاني على مستوى عدد الموتى جرّاء الجائحة مباشرةً بعد جنوب إفريقيا وقبل سائر الدول الإفريقيّة التي يبلغ عدد سكّانها أضعاف أضعاف إجمالي التونسيّين. فمن الإحصائيّات المحزنة أنّ عدد موتانا بسبب هذه الجائحة بلغ رقما قياسيّا يزيد عن 12 ضعفا لمعدّل الوفيّات في القرّة السمراء، وينبئ فعليّا بالخطر الوشيك لانهيار المنظومة الصحيّة…
والحال بهذه الدرجة من السوء والعجز، كيف ننتظر أن ينظر العالم إلى تونس، وهي سليلة حضارة عظيمة منحت اسمها للقارّة الإفريقيّة برمّتها، ووهبت اسم عاصمتها «قرطاج» لنحو 65 مدينة في العالم، وتخلّص شعبها من نظام استبدادي دون السقوط في حرب أهليّة؟!.
مرثاة الدولة التونسيّة!
ليس عيبًا أن تتلقّى الدول التي تتعرّض لكوارث طبيعيّة المساعدات الدوليّة من كلّ صوب وحدب، بدليل أنّ الولايات المتحدة الأمريكيّة نفسها، بوضفها القوة العالميّة الأكبر، كثيرا ما تلقّت الإعانات الدوليّة عند تعرّض بعض مناطقها لأعاصير مدمّرة. الأمر مختلف تمامًا إذن عمّا عليه الحال في تونس اليوم. فالمؤسّسات السياديّة للدولة، من برلمان وحكومة ورئاسة جمهوريّة، هي التي أوصلت الأوضاع إلى ما هي عليه حاليّا. فقد أدّى الصراع السياسي المحموم على الغنائم بين حركة النهضة ومختلف خصومها إلى حالة غير مسبوقة من الارتباك والعجز في مؤسّسات الدولة، على مرّ الأعوام المتعاقبة من انتخابات أكتوبر 2011، إلى أن بلغ أوجه خلال هذا العام المفصلي.
ونتيجة تلك العوامل المتشعّبة، فقدت الثورة التونسيّة بريقها داخليّا وخارجيّا، بعد أن اختُزل الانتقال الديمقراطي في مجرّد آليات للهيمنة على السلطة والسطو على مغانمها، مقابل استضعاف الدولة ومؤسّساتها وتحفيز الفاسدين على المضيّ في نهب ثرواتها في ظلّ تفاقم الإفلات من العقاب، فضلا عن تنصّل أجهزة الدولة من تطبيق القانون وسقوطها في المحاباة غير المبرّرة على غرار السماح مثلا للاتحاد العام التونسي للشغل بعقد مؤتمره الاستثنائي في مدينة سوسة التي تخضع لحجر صحّي شامل!… كلّ ذلك أدّى إلى تراجع هائل لمنسوب الثقة لدى التونسيّين إزاء مؤسّسات الدولة والنخب السياسيّة برمّتها، وحلّ محلّه غياب متزايد للحسّ المواطني وعدم الامتثال المتصاعد للقانون على كافّة الأصعدة. وهذا من شأنه أن يُفسّر لنا، لا فقط الانتشار المفزع لفيروس «كوفيد19» في شتى أنحاء البلاد، وإنّما أيضا ما لحق بسمعة تونس من سوء دوليّا، حتّى بات محلّ شفقة بل وسخرية البعض كذلك…
وبالأمس فقط، كان الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون قد قال، في خطابه الموجّه إلى الفرنسيّين، إنّ «فرنسا ستعمل مع شركائها على تقديم مزيد من اللقاحات إلى الدول الأكثر فقرًا في البلقان وإفريقيا والشرق الأدنى والأوسط. فهناك العديد من الدول التي مسّتها الجائحة أكثر من غيرها، وسنعمل على زيادة مساعداتنا لهاا، وأفكر بالخصوص في تونس». هكذا بلغ حال البؤس والتهاوي الفظيع ببلادنا، إلى درجة ذكر اسمها ضمن كوكبة الدول الأكثر فقرًا والأكثر حاجة إلى المساعدة…
ومن المفارقات أنّ سياسيي تونس أخذوا يتباهون هذه الأيّام بوصول المساعدات من هذا البلد وذاك. ولا نعرف إن كانوا يُدركون فعلا أنّ تلك المساعدات الدوليّة لها ثمنها الباهظ، عملا بالمثل الشعبي التونسي الشهير القائل: «ما ثمّاش قطوس يصطاد لربي»!…
أوهام التضامن
بصرف النظر عن الوعود والتصريحات الرنّانة لبعض الدول «الشقيقة» أو «الصديقة» بشأن اعتزامها مساعدة تونس على تخطّي أزمتها الصحيّة المفجعة، فقد وصلت إلى البلاد خلال هذه الأيام كميّات من التجهيزات الطبيّة واللقاحات من كلّ من مصر وقطر وتركيا والإمارات والجزائر والولايات المتحدة الأمريكيّة. لا يسع تونس طبعًا إلا أن تتوجّه بجزيل الشكر إلى تلك الدول، غير أنّ هذا الأمر يستوجب أيضا الوعي بتبعات تلك المساعدات ودلالاتها ورهاناتها السياسيّة. فقطر مثلا التي أرسلت إلى تونس مؤخرا طائرتين محمّلتين بتجهيزات مستشفى ميداني، سبق لها أن رفضت طلب تونس المتعلّق بتأجيل سداد بعض ديونها، رغم إيفاد رئيس الجمهورية الراحل الباجي قائد السبسي وزير الخارجية آنذاك. كما أنّ زيارتي رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة الحاليّين إلى قطر لم تفضيا إلى نتائج ملموسة تتعلّق بالاستثمار القطري في تونس أو حتى بدعم ظرفي لميزانيّتها المختلّة. وفي المقابل، هلّت بعض المساعدات القطريّة على البلاد بمناسبة شهر رمضان الماضي. من الواضح إذن أنّ هذا التضامن المشروط أو الموجّه يندرج ضمن أجندة سياسيّة واضحة، ولا داعي للخوض مجدّدا في تفاصيلها المعلومة. هذه المعادلة تبدو مختلفة نسبيا بالنسبة إلى المساعدات الطبيّة المصريّة التي وصلت بدورها يوم السبت الماضي على متن طائرتين عسكريّتين. فهي تخضع إلى منطق سياسي مغاير وتتعلّق بنظرة «أبويّة» وبخطاب دعائي يبدو النظام المصري في حاجة إليه، ومن بينها ما يخصّ الصراع مع جماعة الإخوان ويطرح كذلك إشكاليّة مقارنة الأوضاع السياسيّة في مصر مع ما يسمّى بالنموذج الديمقراطي التونسي. وفي المقابل، يتبجّح الإعلام الإماراتي بالحديث عن تونس بوصفها «دولة منكوبة» وبأنّ حكومتها تمارس «جريمة إبادة جماعيّة» ضدّ التونسيّين، وفي الآن ذاته يرسل 500 ألف جرعة لقاح إلى تونس!.
حالة الارتباك القصوى أدّت مثلا إلى إعلان الناطقة الرسميّة باسم وزارة الصحّة نصاف بن عليّة عن «انهيار المنظومة الصحيّة». المنظومة الصحيّة لم تنهر طبعا بدليل أنّ مستشفياتنا ما زالت تعمل ولو بأكثر من طاقة استيعابها. كما أنّ الجيش الأبيض من الكفاءات الطبيّة وشبه الطبيّة لا يزال يناضل ليلا نهارا من أجل إغاثة المصابين. لا تشكيك طبعا في حسن نوايا بن عليّة، باعتبارها كانت في منتهى التأثّر، ساعيةً إلى دفع التونسيّين إلى الالتزام بالبروتوكولات الصحيّة للوقاية من الإصابة بالفيروس المنتشر في كافّة أنحاء البلاد بدرجات متقاربة نسبيّا، في ظلّ تصاعد درجات العبث والأنانيّة وغياب الوعي الفردي والجماعي إلى منتهاها. ومع ذلك فإنّ إعلانا كهذا أفرز نتائج سلبيّة سريعة، على غرار إقدام السلطات الليبيّة الجديدة على غلق حدودها مع تونس بهدف الوقاية من انتقال العدوى إلى مواطنيها، حتّى أنّ المتحدّث باسم الحكومة الليبية محمد حمودة أرجع سبب غلق المنافذ البريّة والجويّة بين البلدين لمدّة أسبوع إلى «إعلان وزارة الصحّة التونسيّة انهيار المنظومة الصحيّة بالبلاد». يأتي ذلك والحال أنّ هذه المنظومة الصحيّة التونسيّة نفسها كانت ولا تزال تُشكّل الملجأ الأساسي للإخوة المرضى الليبيّين، منذ عشرات السنين وإلى اليوم، جرّاء غياب منظومة صحيّة ذات كفاءة في ليبيا مقابل الثقة في الكفاءات الطبيّة التونسيّة… وهذا يعني، من بين ما يعني، أنّ النظرة السلبيّة إلى المثال التونسي أمست غالبة، بل وتُثير الشفقة نظرا إلى اختلال موازين الدولة التونسيّة وعجزها عن تقديم الردّ المناسب وفي أوانه…
لا يخفى إذن أنّ ما يسمى بـ»التضامن» الدولي أو حتّى العربي لا يعدو أن يكون سوى تمثّل ذهني لشيء غير ملموس، وإن كان يُروّج خطابيّا فإنّه أقرب إلى الوهم عمليّا… ومن هنا نتلمّس ما يداور هذه المساعدات من عوامل الشفقة في ثوب التعاطف العربي أو الدولي.
مشكلة أخلاقيّة!
تعجز معاجم اللغة إذن عن توصيف درجة بؤس الأوضاع التي تعيشها البلاد، حتّى أنّه يمكن هذه الأيّام توقّع المفارقات الأكثر غرابة وصلافة، وآخرها مطالبة حركة النهضة بتفعيل ما يُسمّى بـ»صندوق الكرامة» لجمع التعويضات لأنصارها، في وقت لا يجد فيه عموم المصابين بفيروس كورونا وحتّى الأطباء أجهزة أكسيجين للبقاء على قيد الحياة، وفي ظرف تُطالب خلاله الدولة التونسيّة بسداد أقساط ضخمة من ديونها للمؤسّسات الماليّة الدوليّة. الإفلاس الأخلاقي أمسى إذن حالة سياسيّة تونسيّة مخجلة أنجرّت إليه القوّة الحزبيّة الأولى في البلاد وسائر القوى الأخرى الآخذة مثلها بعقليّة الغنيمة والمغالبة؟!.
البروفيسور رفيق بوجدارية، رئيس القسم الاستعجالي بالمستشفى الجامعي عبد الرحمان مامي، اختزل أمس هذا المشهد التونسي المحزن. قال في تصريح لإذاعة «شمس آف.آم» إنّ «هناك صورا لا تليق بنا في هذا الوضع وتحجب عنا الأمل.. يجب أن تكون لدينا وجهة واحدة وقبلة واحدة وهي مقاومة الوباء.. وأتحدّث هنا عن التعويضات في وقت إلّي البلاد باركة ماليّا.. أنا مواطن ولست فقط طبيبا، اليوم أعتبر هذا الأمر خطأ سياسيّا وزلّة أخلاقيّة.. الدعوة لتفعيل صندوق الكرامة تعني أنّهم لا يحملون هواجس المواطنين وأنّ هناك مسافة بينهم وبين مشاكل الوطن وهذا خطأ سياسيّ كبير». بوجداريّة قارن أيضا بين صورة من يطالبون بالتعويضات وصورة تونسيّين آخرين، من داخل البلاد وخارجها، يجمعون المال لمقاومة تفشّي الوباء لاقتناء التجهيزات الطبيّة اللازمة، وخاصّة «مكثّف الأكسيجين». ومن دون شكّ أنّ الطبيب المذكور سيدفع خلال الأيّام المقبلة ثمن إقدامه على انتقاد سياسة الغنيمة والابتزاز غير المحدودين، ناهيك وأنّ النائب والقيادي بحركة النهضة نور الدين البحيري قد استبق أيّة انتقادات عبر تخوين كلّ من يجرؤ على انتقاد تلك الممارسات، زاعما أنّ العودة إلى تلك «الاسطوانة المشروخة» هي «محاولة لتخريب الوحدة الوطنيّة وإفشال المجهود الوطني لمقاومة الوباء وان محاولة المساس بالوحدة الوطنية خيانة عظمى»…
في المقابل، قال رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد أمس إنّ «لقاحات الكوفيد ستتوفّر، ولكنّ تونس في حاجة إلى لقاح سياسي». هذا صحيح، ولكنّ الأكثر صحّة هو أنّ السياسيّين في تونس دون استثناء بحاجة ملحّة إلى «لقاح أخلاقي». وهو للأسف ما لا يمكن توفيره لمن يروّجون وهم امتلاكهم الحقيقة، حتّى أضحت البلاد مثارا للشفقة والتهافت…
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” بتاريخ الثلاثاء 13 جويلية 2021