الشارع المغاربي: تونس اليوم ليست متمارضة جرّاء ما تحيكه لها زمرة “الخونة” مثلما تعوّد الرئيس قيس سعيّد على ترديده بالنبرة المُملّة ذاتها ضدّ معارضيه، بل هي مريضة فعلا بكلّ ما فيها. تونس مريضة بثقل تاريخها وارتباك حاضرها، مريضة بعموم أهلها من سُلطةٍ ونُخبٍ وعوامٍ… واقع يشكو التأزّم في كافّة نواحيه ومناحيه، فلا يحتاج أحيانا لخبراء ونخب أو سياسيّين لتشخيص عوارضه وتفكيك الآفات المتأبّطة بأوصاله…
يكفي المرء أن يتصفّح بعض ما يُنشر في شبكة “فيسبوك” لِيُعاين حالة الفُصام التي تردّت إليها الجمهرة الافتراضيّةFoule virtuelle . أضحت هذه الشبكة “الاجتماعيّة”، خلال العشريّة الأخيرة، حلبة الصراع الأكبر. تُضخُّ فيها أموال ضخمة وتُروّج الأخبار الزائفة على الكثير من صفحاتها، بهدف فرض توجّهات معيّنة للرأي العام أو للإطاحة بمنافسين فعليّين أو محتملين أو حتّى لصناعة إشاعات متواترة، بفعل فاعل قد يكون أحيانا مفعولا به، لكنّه جعل الزمن التونسي دائمًا مفعولا فيه، وإن كان لا يتردّد في محاولة التلاعب بالفئات الاجتماعيّة المهمّشة تقليديّا…
تحوّلات سلوكيّة خطيرة
لا يخصّ هذا التحوّل الجوهري تونس والتونسيّين وحسب، بل يتّصل بظاهرة عالميّة أنتجتها كبرى مخابر التجديد التكنولوجي، فأحدثت ثورة رقميّة غير مسبوقة أشاعت استخدامات الاتّصال الرقمي وأتاحتها للجميع، دون أدنى اشتراطات تُحدّد الخوض في كافّة القضايا المطروحة باسم “دمقرطة” الفضاء العموميDémocratisation de l’espace public أسوةً بما يُعرف بـ”ديمقراطيّة أثينا” التي التبست اليوم بلُبس الشعبويّة الجديدة. عصفت تلك الاستخدامات الجديدة بكلّ القيم وأطاحت بشروط ضبط النفس المتعارف عليها على امتداد عقود. وباتت صناعة التفاهة غولا يشقّ الآفاق، ويجعل الإنسان العالم والمثقف مثارًا للسخرية لدى جحافل الجهلة… امبرتو إيكو Umberto Eco المفكّر الإيطالي الراحل عام 2016 أجاد قُبيْل وفاته توصيف هذا النموذج الجديد بقوله: “منحت الميديا الاجتماعيّة حقّ الكلام لفيالق من الحمقى، ممّن كانوا في السابق لا يتكلّمون إلّا في الحانات، فلا يتسبّبون بأيّ أذى للمجتمع، إذْ يتمُّ إسكاتهم فورًا. أما اليوم، فلهم حقّ الكلام تمامًا مثل من يحملُ جائزة نوبل. إنّه غزو البُلهاء”. والأدهى من هذا التبصّر الساخر أنّ البلاهة -أو حتّى افتعالها والتظاهر بها- باتت اليوم صناعة رائجة في تونس، لا مجرّد ترف بورجوازي. فقد يستوي في التقمّصِ الاختياري لثوب الحمق هذا كلّ من الحاكم والمعارض والإعلامي والخبير في شتّى الاختصاصات…
طوفان من الهذيان الكلامي والغثيان المشهدي أغرق التونسيّين اليوم، حتّى أضحى عصيّا عن التوصيف… صحيح أنّ حديث الإرهاب قد غاب تقريبًا، خلال السنوات الأخيرة، لكنّ الأبواب لا تزال مُشرعةً على مصراعيها أمام التعصّب المفرط المتمسّك بتلابيب آلاف الآلاف من أبناء هذه البلاد شيبًا وشبابًا… ومن الصور المدهشة لهذا السلوك المرضي ما نرصده اليوم بيُسر من أنانيّة متضخّمة وإقصاء للآخر وتشجيع على الكراهيّة وتمييز ضدّ النساء، بل وأيضا تزايد التيّارات العنصريّة التي أخذت تتكتّل وتنظّم نفسها، على غرار الحملات المنهجيّة التي انتظمت مؤخرًا تحت شعار “حملة توانسا ضد الاستيطان الأجصي”، أي اختزالا ضدّ المهاجرين السود المقيمين في تونس من “أفارقة جنوب الصحراء”…
وفي الأثناء، ترى أيضا عشرات الآلاف من المؤلّفة قلوبهم تعرب عن عميق إعجابها بخطب عصماء لبعض الأشباه من قادة الرأي الجُدد، وقودها الشتم والقذف والصراخ والتخوين ضدّ سياسيّين يُناصبونهم العداء أو حتّى ضدّ فنّانين أو إعلاميّين وغيرهم…
تحوّلات سلوكيّة رهيبة ألقت إذن بالأغلبيّة الغالبة في طاحونة حرب الكلّ ضدّ الكلّ. فإمّا الانخراط “الانتهازي” غالبًا في تلك المعارك الواهية عبر الإمعان في التضخيم والتهويل أو التهوين أو الركون إلى عزلةٍ مريرةٍ قد لا تؤدّي بدورها إلا إلى جلد الذات…
من سماسرة “فيسبوك” إلى تجّار الشوارع؟!
إن اخترت غلق شاشة هاتفك المحمول أمام نوافذ “فيسبوك” وحوانيتها التونسيّة، وأردت الوقوف على أوجه الأزمة السائدة في تونس على أرض الواقع، فيمكنك الاكتفاء بالسيْر لبضع دقائق في بعض شوارع العاصمة الكئيبة. وحينها يمكنك فهم ما يحدث دون القدرة على تفهّم ما حلّ بالجموع من وباء قصم الظهور… الالتزام بالقانون هو الشيء الوحيد المفقود في شوارع هذه البلاد وأنهجها. سير السيّارات على يسار الطريق أصبح القاعدة، وكأنّك في إحدى دول الكومنولث من المستعمرات البريطانية السابقة. في شارع فرنسا على بعد أمتار من تمثال ابن خلدون تفترش الملابس الجاهزة الأرض ولا تترك من أرصفة أقواس المكان في القلب النابض للعاصمة سوى أمتار ضيّقة للمارّة. وقُبالة سياج الأسلاك الشائكة المذّلة المحيطة بالسفارة الفرنسية أكوام من الملابس المستعملة. وفي شارعي إسبانيا وشارل ديغول وبعض الأنهج المتفرّعة منها لا مجال إطلاقًا لمرور السيّارات جرّاء السلع المهرّبة المصفّفة والمتناثرة على قارعة الطرقات المزدحمة وعلى امتداد الأرصفة… وعليك أخذ كلّ الحيطة وغلق المنافذ إلى جيوب سترتك حتّى تأمن شرّ النشّالين والمحتالين الذين قد تلمح أعينهم المتلاعبة استعدادًا لاصطياد بعض المارّة…
قد يكون تُجّار الشوارع أو جزء مهمّ منهم مِن أنصار رئيس الدولة ومن فئة “الشعب يريد” وقد يُشكّلون حطب السلطة في مواجهة نيران خصومها. لا ريب في أنّ هؤلاء ما انفكّوا يقدّمون خدمات جليلة إلى حاكم البلاد الأوحد، وفق توصيفه لنفسه مرارًا وتكرارًا، قبل 25 جويلية 2021، بأنّ للدولة التونسيّة رئيسًا واحدًا أحدًا، حين كانت حركة النهضة تُهيمن على أوردة قصري البرلمان والحكومة. خدماتٌ تتمثّل في أثر التجارة الموازية والسلع المهرّبة على التخفيف من فتنة غلاء الأسعار وحدّة تراجع القدرة الشرائيّة للتونسيّين. وهذا ما يُفسّر جزئيّا تجنّب البوليس وفرق المراقبة التجاريّة مطاردة تجّار الشوارع مؤقّتا، لاسيّما أنّ جلّ أجهزة الرقابة تحتاج هي بدورها إلى من يُراقبها…
ومع ذلك فإنّ تلك البضائع المعروضة على عموم المستضعفين، هنا وهناك، لا يمكنها لوحدها أن تحدّ ممّا تُكابده فئات واسعة من الشعب من أوجاع الحرمان وغزوات الفقر الداهم… وربّما يصعب أن يفقه أيّ حاكم أنّ هؤلاء الشباب المناصرين له هم قبل كلّ شيء أنصار أنفسهم، وقد ينقلبون عليه في غضون لحظات من الزمن متى بارت تجارتهم وتضرّرت مصالحهم… وهكذا سيفعل أيضا أصحاب المال والأعمال من الشركات التونسيّة التي التجأت بدورها إلى التجارة الموازية، حتّى تُخفّف على نفسها أعباء الضرائب المتلاطمة كالأمواج الكاسرة من حولها…
متلازمة الإخفاق!
قد يكون رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد اليوم الشخصيّة التونسيّة الوحيدة التي لم تستشعر خيبة الأمل الكبرى لدى فئات واسعة من التونسيّين من فشل كافّة إجراءات 25 جويلية 2021 وما تلاها، جرّاء انفراده المطلق بالحكم وما تسبّب فيه من حالة انغلاق سياسي تامّ لا يليق مطلقا بتونس بعد الثورة، بل ودفع إلى تأزيم الأوضاع بشكل غير مسبوق، إلى درجة أنّه لم يعُد من المجدي الحديث المتكرّر عن فشل منظومةٍ، من السهل اكتشاف أنّها تُعاني من “متلازمة أسبرجير” Syndrome d’Asperger التي تصمّ الأذان وترفض التفاعل مع الفاعلين الآخرين مهما كانت مقترحاتهم ومبادراتهم، بل وتجترّ أنماطًا سلوكيّة مكرّرة ولا تستشعر أصلا وجود الآخر…
في المقابل، تشهد البلاد غيابًا شبه كليّ لفعل المقاومة البنّاءة. فالمعارضة السياسيّة لا تزال تُراوح أمكنتها المطمورة في أوحال ممارسات العشريّة السابقة. بُليت هذه البلاد للأسف بقادة أحزاب سياسيّة من طينة لا تخجل من أفعالها المارقة. فعلاوة على أنّ هؤلاء يرفضون المراجعة ويكابرون بعدم الاعتراف بأخطائهم القاتلة التي مهّدت السبيل لبروز تيّار الشعبويّة الفاشل وهيمنته على المشهد العام، فإنّها لا تزال تتوعّد من لم يتصدّ لمنظومة قيس سعيّد منذ صعودها قبل أكثر من عام!… أمّا نتيجة هذا الوباء السياسي المتضخّم، فقد ترجمتها سريعا انتكاسة المعارضة جماهيريًّا وعجزها الملفت عن حشد الحدّ الأدنى من التونسيّين في تحرّكاتها الاحتجاجيّة ضدّ السلطة، كما هو الحال يوم 14 جانفي الأخير، على الرغم من تراجع شعبيّة رئيس الجمهوريّة جرّاء تصاعد سوء الأحوال…
مسؤوليّة رأس السلطة في تأزيم الأوضاع والسير بخطى ثابتة نحو إفلاس الدولة وارتهانها، بات يُقابلها إذن فقدان شبه تامّ للثقة في المعارضة المفلسة سياسيّا وأخلاقيّا. فمن أوجُه الغرابة أنّ بعض من يتزّعم المعارضة مثل “جبهة خلاص حركة النهضة” بدا وكأنّه يُعاني بدوره من المتلازمة المرضيّة نفسها. متلازمة اعتلاء كرسيّ الحكم بأيّة وسيلة كانت وإن استلزم الأمر التحالف مع ألدّ الخصوم السابقين. أضحى ذلك داءً معلوما يشكو منه رئيس تلك الجبهة المنتفخة أحمد نجيب الشابي. ومن سخرية الواقع أنّه لم يستوعب أنّ القطار قد فاته، منذ أعوام، وأنّه يشكو منتهى العجز عن السير على منوال العديد من “النجباء” الذين احتلّوا منصب رئاسة الدولة أو رئاسة الحكومة في العالم مثل محمد نجيب في مصر ونجيب رزاق في ماليزيا ونجيب ميقاتي في لبنان ونجيب الله في أفغانستان ونجيب بُقيله رئيس جمهوريّة سلفادور الحالي…
هذه بعض أوجه بلادنا المريضة اليوم، تونس التي أهدرت نُخبها في السلطة والمعارضة على مرّ الأعوام فرصًا تاريخيّة لاستثمار ثورتها والنهوض بواقعها، فأحكمت الخناق على شعبها حتّى أصبح بدوره مرآة عاكسة لخيباتها…
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 17 جانفي 2023