الشارع المغاربي: من المؤسف أن تجد الدولة التونسيّة نفسها محاصرةً اقتصاديّا وسياسيّا من القريب قبل البعيد، بصرف النظر عن طبيعة النظام السياسي الراهن وضعف سياسته الخارجيّة إقليميّا ودوليّا. في هذا النطاق، يمكن أن نُعاين بيسر ازدواجيّة الخطاب الذي تعتمده السلطات الجزائريّة حيال تونس، كيف ذلك؟…
سبق للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون أن صرّح، في مناسبات عديدة، أنّ الجزائر ستقف مع تونس لتجاوز الأزمة الاقتصاديّة الخانقة التي تمرّ بها. ومنذ أسابيع قليلة، اعتبر أنّ “تونس تتعرّض لمؤامرة، والجزائر تقف معها أحبّ من أحبّ وكره من كره”. وذهب، في اللقاء نفسه مع قناة “الجزيرة” القطريّة، إلى أنّ “الجزائر تسعى دائما إلى ردّ جميل تونس أثناء الثورة (الجزائريّة) وبعدها، فنحن لن نتخلّى عن الشعب التونسي ونساعده بقدر المستطاع”، محذّرا من أنّ “الضغوطات التي تأتي من الخارج فيها الكثير من الخبث لزعزعة استقرار البلاد مثلما رأينا في دول أخرى… وما يهمّني هو ألّا نترك الدولة التونسيّة تنهار”… تصريحات تبدو في مجملها إيجابيّة رغم تعدّد دلالاتها، ولاسيما إذا ربطنا الخطاب بالفعل.
بين القول والفعل
لن نخوض كثيرًا في مسألة التدخّل الجزائري في الشؤون الداخليّة التونسيّة لأنّ الأمر من تحصيل الحاصل، وإن قيل خلاف ذلك، حتّى أنّ الرئيس الجزائري نفسه قد اعترف خلال اللقاء المذكور سلفا بأنّ “تونس امتداد أمني للجزائر والجزائر امتداد أمني لتونس”. والأكثر من ذلك أنّه قد قال حرفيا، خلال زيارته لروما أواخر شهر ماي 2022، إن الجزائر وإيطاليا على “استعداد لتقديم المساعدة اللازمة لتجاوز تونس المأزق الراهن والرجوع إلى الطريق الديمقراطي”، وكأنّ الجزائر تُشكّل نموذجًا يُحتذى للممارسة الديمقراطيّة.
الأهمّ ممّا تحمله هذه التصريحات من لغو خطابي هو أنّها لم تقترن بأفعال ملموسة لدعم تونس على تجاوز أزمتها الماليّة الخانقة، مثلما فعلت تونس حيال جيرانها سابقا، بل وربّما حدث العكس تمامًا، والأمثلة عديدة. فالقاصي والداني يدرك أنّ الحرب في أوكرانيا وما أدّت إليه من ارتفاع أسعار المحروقات قد أتاح للجزائر وفرة ماليّة غير مسبوقة، حتّى أنّها رفعت حجم ميزانيّتها الدفاعيّة إلى الضعف بما يتجاوز 22 مليار دولار. ومع ذلك لم تُقدّم شيئا ذا بال إلى تونس التي تكابد شتّى الضغوط الغربيّة والعربيّة من أجل القبول بالشروط المجحفة لصندوق النقد الدولي مقابل قرض تَقِلُّ القيمة الإجماليّة لجميع أقساطه عن 2 مليار دولار.
وآخر الأمثلة ما راج مؤخّرًا حول مطالبة الشركتين الجزائريّتين “سوناطراك” و”سونلغاز” الشركة التونسيّة للكهرباء والغاز باستعجال سداد الفواتير المستحقّة لديها. والأرجح أنّ الجانب التونسي قد خضع لضغوط جزائريّة دفعت الشركة التونسيّة إلى تقديم توضيحات رسميّة بشأن إيفائها بتعهّداتها في إطار اتفاقات تبادل الطاقة المبرمة مع الشركتين الجزائريّتين المذكورتين. فلا ريب في أنّ تأكيد الطلب الجزائري المتعلّق باستعجال تسديد تلك الفواتير من شأنه أن يُثير حرجًا بالغًا للسلطات الجزائريّة، وهي التي بَنت سرديّة متكاملة بشأن دعمها التامّ لتونس خلال هذه الفترة الحرجة…
والجدير بالذكر أنّ شركتي “سوناطراك” الجزائريّة و”إيني” الإيطاليّة كانتا قد أبرمتا، منذ أسابيع، اتّفاقيّة جديدة لإنشاء خطّ أنبوب غاز مباشر بين الجزائر وإيطاليا، أي دون المرور بتونس. وهو ما يشكّل ضربة قويّة للدولة التونسيّة التي كانت تُعوّل على رفع حجم عائدات أنبوب الغاز الجزائري العابر للبلاد التونسيّة في اتّجاه إيطاليا. وهو ما يعود إلى استضعاف تونس ودبلوماسيّتها المرتبكة، ممّا أدّى إلى تغييبها عن تلك المحادثات والاتّفاقات ذات الأهميّة الحيويّة بالنسبة إلى الاقتصاد التونسي…
مسؤوليّة الذات
لا نُنكر، في المقابل، أنّ التونسيّين يتحمّلون نصيبهم من مسؤوليّة الاستضعاف والاستقواء هذه على أصعدة عدّة، بدايةً بضعف الدبلوماسيّة وسياسة الاستجداء رسميّا ووصولا إلى فظاعة الأداء إعلاميّا. فلا ننسى مثلا كيف كانت قناة “الوطنيّة1” الرسميّة، ومن ورائها السلطات السياسيّة، تُبالغ بشكل مجّانيّ في التهليل لمشهد قدوم أوّل سائح جزائري أواسط الصيف الماضي، أي بعد نهاية موسم الحجوزات السياحيّة. والأمر سيّان بالنسبة إلى سقوط بعض الإعلاميّين التونسيّين خلال الفترة الماضية في استخدام عبارات وتوصيفات متصاغرة غبيّة من قبيل “الشقيقة الكبرى” عند الحديث عن الجزائر. والحال أنّ كلّ بلد ينبغي أن يكون، ولو رمزيّا، البلد الأكبر والأعظم في مخيال مواطنيه، بصرف النظر عن الإيديولوجيّات التي تحاول الأنظمة فرضها على شعوبها!…
وهل ننسى أيضا الإجراءات العقابيّة المسيئة التي تعامل بها أفراد الدرك الجزائري منذ فترة مع مئات المسافرين التونسيّين بشكل متزامن في كافّة المعابر الحدوديّة، جرّاء خلاف ثنائي بعد امتناع السلطات التونسيّة عن ترحيل الناشطة السياسيّة الجزائريّة/الفرنسيّة أميرة بوراوي إلى الجزائر والسماح لها بالسفر إلى فرنسا. ندرك أنّ الكثير من أفراد الدرك والجمارك الجزائريّين لا ناقة لهم ولا جمل في حسابات رؤسائهم، بل كانوا آنذاك مجرّد منفّذين لتعليمات عُليا. والحال أنّ السلطات الجزائريّة نفسها سبق أن سمحت بسفر العديد من الشخصيّات السياسيّة التونسيّة البارزة إلى فرنسا، بعد أن عبرت خلسة الحدود التونسيّة الجزائريّة. وربّما آخر هؤلاء نبيل القروي، وقبله زعيم جماعة الاتّجاه الإسلامي راشد الغنوشي والوزير الأوّل الأسبق محمد مزالي والوزير المتعدّد الحقائب أحمد بن صالح وغيرهم… حينها ابتلعت السلطات التونسيّة السكين بصمتٍ دون أن تُقيم الدنيا وتُقعدها، صونًا لعلاقاتٍ ينبغي أن تبقى متميّزة بين الشعبين المتحابّين…
كلّ ما سبق ذكره يعني في المحصّلة أنّ الدعم الجزائري لتونس يكاد يقتصر على الجانب المعنوي لخطابها الرسمي الذي لا يُسمن ولا يُغني من جوع… على غرار الدول العربيّة الثريّة الأخرى كالسعوديّة والإمارات وقطر التي أدارت ظهرها لتونس، معتمدةً فقط على ازدواجيّة الخطاب، ومُتحجّجةً بضرورة إجراء الإصلاحات التي تشترطها المؤسّسات الماليّة الدوليّة الكبرى، باعتبارها تُدين لأرباب التطبيع بالطاعة العمياء، هذا إن لم تُسهم بعضها في تغذية الأزمة السياسيّة في البلاد.
لا شكّ طبعًا في أنّ وحدة الجغرافيا، كما التاريخ، تفرض على تونس والجزائر التكاتف والتعاون بدلا من التنافر أو الخطاب المزدوج والموارب. فالأحوال متغيّرة شئنا أم أبينا، بصرف النظر عن بورصة الغاز والبترول. وهو ما يتطلّب النأي عن منوال الابتزاز اقتصاديّا وسياسيّا أو الاقتداء بالخطاب الأجوف لـ”التضامن العربي” الذي لم يعد يُناسبُ إلّا الجامعة العربيّة الغارقة في صنوف العجز والهوان أسوة بالنفاق السياسي لجلّ أعضائها… فتونس التي كانت دائما موئلا دافئا لإخوة الجوار الجزائري والليبي ليست، رغم كلّ مآسيها الراهنة، مجرّد ملفّ للتداول مع أيّة دولة لا تهمّها سوى مصالحها الضيّقة وحساباتها الظرفيّة…
*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 11 افريل 2023