الشارع المغاربي: راج، خلال الأيّام الأخيرة على الشبكات الاجتماعيّة، فيديو ذو مضامين عنصريّة صادمة لجوزيب بوريل المُمثّل السامي للاتحاد الأوروبي المكلّف بالشؤون الخارجيّة وسياسة الأمن. قال بوريل في كلمته حرفيّا: “نعم أوروبا هي حديقة، لقد شيّدنا حديقةً. أمّا بقيّة العالم أو معظم بقيّة العالم فهو غابة. والغابة يمكن أن تغزو الحديقة”.
هذه الكلمات ليست صادمة فحسب، بل بدت بمنتهى العجرفة والصفاقة والعنصريّة البدائيّة الحقيرة. فهي لم تصدر عن مجرّد شخص عاديّ غير مُشبعٍ بثقافة حقوق الإنسان، فلا يُستغرب أنْ يتسّاقط في أتّون الفكر العنصري الذي يحتقر الآخر ويُبرّر امتهان كرامته واستعباده. فداحة تلك العبارات العنصريّة تتمثّل تحديدًا في أنّها جاءت على لسان كبير مسؤولي الاتّحاد الأوروبي، وهنا مكمن الداء!.
كلمات جوزيب بوريل ليست جديدة، في الحقيقة، فقد كان هذا الفيديو مصحوبًا بمداخلة شديدة اللهجة بمقرّ البرلمان الأوروبي للعضو البلجيكي في برلمان ستراسبوغ مارك بوتنغا (Marc Botenga)، مؤرّخا في 22 أكتوبر 2022. فمن الواضح أنّ المضامين العنصريّة لكلمة بوريل كانت قد مرّت آنذاك دون انتباهٍ كبير، وهو ما استدعى الوقوف عندها اليوم بعد انتشارها افتراضيّا كالنار في الهشيم. تساءل عضو البرلمان الأوروبي في ردّه على بوريل: “ما هو الفرق بين الحديقة والغابة؟!”، ليُجيب بوضوح تامّ: أنّ “الحديقة هي مكان جميل حيث يتجوّل أُناس متحضّرون، أمّا الغابة فهي قلب الظُلمة حيث تعيش الحيوانات المتوحّشة. الآن، الكثير من النّاس في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينيّة يتذكّرون جيّدا كيف كان الاستعمار الأوروبي يُعاملهم باسم الحضارة كالحيوانات المتوحّشة واستعبادهم وتعذيبهم، بل وأيضا عرضهم في حدائق حيوانات بشريّة. ولذلك فإنّه حين يُقارن الدبلوماسي الأعلى للاتحاد الأوروبي بين أوروبا بوصفها حديقة وبقيّة دول العالم بوصفها غابة فإنّ الرسالة تعني هنا للنّاس أنّ أوروبا لا يزال يقودها دُعاة الاستعمار الجديد. يجب ألّا نترك هذه الرسالة تمرّ”.
ردٌّ قاصمٌ وضعَ الإصبع على عيْن الداء، وهو أنّ القارّة القديمة وقياداتها السياسيّة الحاليّة مازالت مريضة تمامًا بتاريخها الاستعماري المظلم. سُوس الفكر العنصري، في ملامحه النازيّة الجديدة، لا يزال ينخرها للأسف الشديد. أمّا أحاديث كبار المسؤولين الأوروبيّين عن حقوق الإنسان حين يتوجّهون إلى دول الجنوب، فهي مجرّد اجترار عناوين بعض دروس تاريخ الأفكار السياسيّة المُنتقاة التي تلوكها ألسنتهم هنا وهناك. والحال أنّ أذهانهم مدسوسة غالبًا بأجندة ذات عنوان رئيسي واحد ولو بآليّات متعدّدة، وتكمن تحديدا في البحث عن تحقيق مصالحهم دون سواهم…
حين نسمع جوزيب بوريل مُتفوّهًا بتلك المضامين الشائنة نستذكر تصريحاته القبيحة في شهر مارس الماضي حيال تونس، عندما بشّر بـ”انهيارها الوشيك”، معتبرًا أنّ حدوث ذلك “يعني أنّ الاتّحاد الأوروبي سيجد نفسه في مواجهة أفواج جديدة من المهاجرين، وهو ما يجب تجنّبه”. فالخطر بالنسبة إليه لا يكمن في كارثة انهيار تونس في حدّ ذاته، وإنّما يتمثّل في انعكاساته المحتملة على أوروبا، وتحديدًا في غزو الحديقة الأوروبيّة بجحافل المهاجرين القادمين من غابة الكائنات المتوحّشة في نظره العنصري الدفين. في هذا المضمار نستزيد فهمًا لتهديده المتعالي آنذاك بأنّ “الاتحاد الأوروبي لا يمكنه مساعدة دولة غير قادرة على توقيع اتّفاق مع صندوق النقد الدولي”، وكذلك دعوته دول الاتحاد الأوروبي إلى “ضرورة تعليق التعاون مع وزارتيْ العدل والداخليّة التونسيّتين”، متعلّلا بسوء معاملة السلطات التونسيّة للمهاجرين والمعارضين في تونس. ليست تونس اليوم بلا أدنى شكّ جنّة أو حديقة ملائكيّة، على خلاف الوصف الأيديولوجي البدائي الذي أسنده بوريل إلى أوروبا. كما تنوء بلادنا اليوم، للأسف الشديد، بممارسات أقلّ ما يُقال فيها إنّها تُكرّس حكم الفرد الواحد وتُعمّق تيّار الشعبويّة وتسير ضدّ المسار المنشود للديمقراطيّة والتعدّديّة، في ظلّ وجود معارضة مهترئة لم تقُم بعد بأيّة مراجعات لسياساتها الغنائميّة المدمّرة على امتداد عشرة أعوام…
مع ذلك، فإنّ التونسيّين الأحرار يرفضون رفضًا مطلقًا دروس حقوق الإنسان ممّن لا يزال يستبطن معتقدات عنصريّة بائدة للتفوّق الحضاري الأوروبي. فكيف نتغاضى اليوم عن تصريحات جوزيب بوريل، أواخر شهر جوان الماضي، بشأن اشتراط الدعم الأوروبي لتونس باحترام حقوق الإنسان؟!. فهي لئن جسّدت في ظاهرها تمسّكًا بقيم إنسانيّة راقية، فإنّها تعكس في حقيقتها إمعانًا في العنجهيّة والنفاق الرسمي وسياسة المكيالين. فلا يخفى أنّ بوريل لم يُعارض سياسات الهجرة الأوروبيّة التي ما انفكّت تضع عراقيل أمام بواخر إنقاذ المهاجرين الغرقى… وفي كلمته بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان في ديسمبر الماضي، عدّد دول العالم التي تُمارس فيها انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، لكنّه استبعد في قائمته الممارسات الوحشيّة لقوات الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين المحتلّة. فمن يُصدّق أنّ المُمثّل السامي للاتحاد الأوروبي المكلّف بالشؤون الخارجيّة وسياسة الأمن غير مطّلعٍ على ما يرتكبه الصهاينة من جرائم ضدّ أبناء الشعب الفلسطيني صغارًا وكبارًا بشكل شبه يومي، لاسيما أنّه عمل سابقا بإحدى المستوطنات الإسرائيليّة؟!
بوريل العنصري يُذكّرنا خصوصًا بضرورة عدم الأخذ بظاهر الأمور. فقلّة قليلة من النّاس، بما في ذلك الكثير من المثقّفين، تُدرك أنّ بعض كبار الفلاسفة والمفكّرين الأوروبيّين المعروفين بالدفاع عن الحقوق والحريّات يتبنّون طُروحات عنصريّة، على غرار فيلسوف الأنوار البارز فولتير الذي قال حرفيّا في كتابه “رسالة في الميتافيزيقيا” إنّ “البيض متفوّقون على هؤلاء الزنوج، كما يتفوّق الزنوج على القردة، وكما يتفوّق القرود على المحار”. Les Blancs sont supérieurs à ces Nègres, comme les Nègres le sont aux singes, et comme les singes le sont aux huîtres. ” Voltaire (Traité de métaphysique)”
أو كذلك مونتسكيو مُنظّر الفصل بين السلطات الذي قال في كتابه “في روح القوانين”: “لا يمكننا أن نتخيّل أن الله، وهو كائن حكيم، قد وضع نفسًا، وخاصة روحا طيّبة، في جسد أسود تمامًا”. On ne peut se mettre dans l’idée que Dieu, qui est un être sage, ait mis une âme, surtout une âme bonne, dans un corps tout noir ” … Montesquieu (De l’esprit des lois, 1748)”.
أمثلة كثيرة قد تغيب اليوم عن الأذهان، لكنّها تكشف أنّ الفكر العنصري لا يزال جاثمًا على القارّة العجوز. والمؤسف أنّه ما زال يُغذّي السياسات الأوروبيّة ولو بشكل مستترٍ غالبًا. ومع ذلك بات الأمر مكشوفا بالنسبة إلى كبير مسؤولي الاتحاد الأوروبي الذي لئن كان من أبرز وجوه “الحزب الاشتراكي العمّالي الإسباني”، فإنّه شغل أيضا عضوية مجلس إدارة إحدى المجموعات الصناعيّة الكبرى للطاقة ورئاسة المعهد الجامعي الأوروبي بفلورنسا في الآن ذاته، حتّى فُرضت عليه الاستقالة من منصبه المذكور في عام 2012 بسبب تضارب المصالح… مسيرة ومواقف ومصالح تُلقي بعض الضوء على شخصيّة أوروبيّة لا ينبغي أن نستغرب مواقفها، مهما بدت متضاربة أو عنصريّة… فاليوم لم نسمع جوزيب بوريل فقط في ذلك الفيديو، بل شاهدناه أيضا يلوك عباراته العنصريّة بابتسامة ركيكة، فارتسمت في الذهن صورةُ تاجرٍ يَسيل لُعابه في سوق النخاسة بروما القديمة، وكأنّه يقود مجموعة من العبيد المقيّدين العُزّل الذين استقدمهم من “الغابة” التي يتحدّث عنها، ليرميهم فردا فردا في حلبة أو “حديقة” الكولوسيوم الروماني لمصارعة أشدّ الوحوش الأوروبيّة جوعًا وفتكًا…
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 11 جويلية 2023