الشارع المغاربي: اطّلعت، خلال الفترة الأخيرة، على عدد من المقالات بأقلام مغربيّة عن المشهد التونسي. بدا جليّا أنّها تنطلق في مجملها من أجندة واحدة تستهدف تونس وتحاول تشويه صورتها، وكأنّ البلدين يعيشان حالة عداء غير مسبوقة. مسألة تحتاج لبعض التشخيص…
تشهد تونس أزمة شبه شاملة، سياسيّا واقتصاديّا واجتماعيّا. هذه الحقيقة لم تعد خافية عن أحد، وهو ما جعل تونس تتصدّر أحيانا عناوين الأخبار، مثلما تصدّرتها في فجر عام 2011، ولكن صورة تونس كانت إيجابيّة دوليّا آنذاك على خلاف ما هي عليه اليوم. فهل يُبيح هذا الواقع المتردّي استهدافها وتشويهها ليلا نهارا من دون مؤيّدات ملموسة وخاصّة لخدمة أجندات لا علاقة لها بضوابط الممارسة المهنيّة لحريّة الصحافة.
لا ريب طبعا في أنّ حريّة التعبير والصحافة تكفل لوسائل الإعلام وللصحفيّين الكتابة بحريّة وبلا قيود أو رقابة ذاتيّة عن البلاد الأخرى كما عن بلادهم. ومع ذلك يبدو من خلال بعض البحث أنّ معظم الكتّاب المغاربة المتخصّصين في توجيه انتقادات لاذعة جدّا إلى الأوضاع في تونس عاجزين كلّ العجز في الآن ذاته عن نقد الأوضاع السياسيّة في بلادهم. وهو ما يطرح تساؤلات عن مدى وجود أجندة أو نوازع تُحرّكهم في هذا الاتّجاه دون غيره…
تصيّد وانتقاء عمليّة التصيّد للأخبار السلبيّة
وعلى سبيل المثال، نشر موقع “La Quotidienne” الإخباري المغربي منذ أيّام مقالا بعنوان: Tunisie: Les migrants, on n’en veut pas!، استهلّه بالقول إنّ “السلطات التونسيّة تقوم كلّ يومٍ بارتكاب أفعال حقيرة وغير إنسانية تجاه مهاجري جنوب الصحراء”. وأضاف أنّ “الشعب التونسي قد عبّر بشكل علني عن عدائه، وحتّى عن كراهيّته للمهاجرين منذ التصريحات غير الواقعية وغير المسؤولة والعنصرية التي أدلى بها الرئيس التونسي… ومن خلال تصريحاته المشينة، فتح بذلك رسميًا عمليّة مطاردة للمهاجرين”… هكذا إذن وبكلّ بساطة زعمت الصحيفة المغربيّة أنّ التونسيّين، سواء من قوّات الأمن أو سائر المواطنين، قد أصبح شغلهم الشاغل مطاردة المهاجرين وقمعهم بشكل يومي وحقير وغير إنساني، وأنّ الشعب التونسي برمّته لم يعد يتردّد في التعبير عن عدائه وكراهيّته لهؤلاء المهاجرين!. الأكثر من ذلك أنّها أعربت عن استغرابها لغياب ردّ فعل قويّ من الدول الإفريقيّة ومن منظمة الاتحاد الإفريقي، وكأنّها تُطالب بتسليط عقوبات دوليّة على تونس، قائلة “الغريب أنّ الدول الإفريقية بدت سلبيّة في مواجهة هذه الانتهاكات، مُكتفيةً ببعض الاحتجاجات التي بالكاد يمكن سماعها. وحتّى الاتّحاد الإفريقي أغلق عينيه وبدا أنّه تكيّف مع الأعمال الفاضحة للسلطات التونسيّة. أدان طبعًا تصريحات سعيّد، وماذا بعد ذلك؟ لا شيء. إنّه صمتٌ مذنبٌ، يُعطي ضمنيًّا شيكًا على بياض للرئيس التونسي الذي أعاد التأكيد في جوان الماضي أنّ تونس لا تقبل توطين المهاجرين على أراضيها”. وفي السياق ذاته نقرأ أكذوبة في شكل مقال حبّرته صحفيّة مغربيّة في النسخة الإنجليزيّة من صحيفة “العربي الجديد” القطريّة تحت عنوان: Camps, assault and death: the horrors facing black migrants in Tunisia ويدّعي أنّ المهاجرين السود في تونس أصبحوا رهائن لثلاثة أهوال “الحبس في المحتشدات والاعتداء عليهم بالعنف والموت”!.
حين نقرأ هذه العبارات نبدو وكأننا من أهل الكهف، إذ لم نلاحظ في الشوارع التونسيّة ما تحدّثت عنه الصحافة المغربيّة من أنّ هناك مطاردة شعبيّة جهنّميّة يوميّة وبشكل منهجي لمهاجري جنوب الصحراء في تونس. والحال أنّ تونس رغم ظروفها الصعبة جدّا فإنّها جاءت في المرتبة الأولى مغاربيا في “مؤشر السلام العالمي لسنة 2023” الصادر في بداية شهر جويلية الجاري عن المعهد الدولي للاقتصاد والسلام. كما لم نتخيّل أنّ العمل الصحفي قد يتحوّل بجرّة قلم إلى كتلة من الحقد الأعمى الذي يُبرّر النزوع إلى نشر المغالطات واختلاق أحداث وهميّة زائفة وتعميمها بصفة تسيء إلى مروّجيها قبل غيرهم.
أمّا عن رفض توطين المهاجرين غير النظاميّين في تونس، فلا نخال أنّ هناك بلدا واحدا في العالم يقبل بلا أدنى قيد أو شرط بأن يكون بوّابة مفتوحة أمام كافّة الوافدين إليه، بما في ذلك كبرى الدول الغربيّة المنتعشة اقتصاديّا، فما بالك بدول أخرى تُكابد أزمة اقتصاديّة واجتماعيّة عميقة، على الرغم من أنّ الانتقال من بلد إلى آخر هو حقّ من حقوق الإنسان الأساسيّة، وفق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي التفّت عليه الدول الغربيّة قبل غيرها وأبقته حبرا على ورق…
إن لم تستح، فافعل ما شئت!
لا يخفى أنّ ظروف عيش المهاجرين غير النظاميين من أفارقة جنوب الصحراء تبدو سيّئة في تونس، بالنظر إلى هشاشة أوضاعهم القانونيّة والاجتماعيّة ومحدوديّة إمكانياتهم الماديّة، وخاصّة في ظلّ الأزمة الاقتصاديّة التي تشهدها تونس حاليّا، فضلا عن تصاعد حدّة البطالة في البلاد، ممّا يحول دون تحسين أوضاع هؤلاء المهاجرين. والحال أنّ البلاد لم تستطع أصلا الحدّ من نزيف الهجرة السريّة لشبابها على قوارب الموت نحو الضفّة الشماليّة للمتوسّط. كما لا ينبغي أن نُنكر وجود ممارسات عنصريّة مؤسفة ومرفوضة في تونس، على غرار ما هو سائد في العالم بأسره. ولكن من الصفاقة نشر مغالطات حمقاء من قبيل أنّ التونسيّين باتوا يشكّلون شعبًا عنصريّا يمارس العداء والكراهيّة للأجانب أو الحديث عن ارتكاب مجازر في حقّ هؤلاء المهاجرين.
ويكفي الإشارة إلى أنّه بتاريخ 24 جوان 2022 تسبّب حرس الحدود المغاربة والإسبان، وفق إحصائيّات خبراء الأمم المتحدة، في مقتل 37 مهاجرا غير نظاميّ معظمهم من السودان وتشاد وفقدان العشرات الآخرين أثناء تسلّقهم للسياجات الشاهقة التي تفصل المغرب عن مدينة مليلية المحتلّة، وذلك جرّاء استخدام عناصر الشرطة المغربية والإسبانية القوّة المفرطة. كما تُرك مئات الجرحى لساعات طويلة من دون مساعدة طبيّة على جانبي السياج. كما تضجّ تقارير بعض المنظمات الحقوقيّة الدوليّة بتوثيق انتهاكات قوّات الأمن المغربيّة ضدّ مهاجري جنوب الصحراء في منطقة الشمال الشرقي للمغرب، كالضرب المبرح وحتّى السرقة. فهل يُبيح ذلك السقوط في التعميم المغرض والترويج لوجود انتهاكات منهجيّة جسيمة يرتكبها الأمن المغربي يوميّا ضدّ المهاجرين العُزّل ويُباركها الشعب المغربي الشقيق!.
ملخّص الأمر أنّه من أوكد مهام وسائل الإعلام الانتصار للقضايا العادلة في العالم وإعلاء القيم الإنسانيّة النبيلة ومناصرة الفئات الهشّة على غرار اللاجئين والمهاجرين والقُصّر، غير أنّ ذلك لا يعني السقوط في أجندات استهداف دول أخرى وشعوبها وتشويهها لمجرّد التغطية على واقع الانتهاكات المحليّة، مثلما تصنع أيضا معظم وسائل الإعلام الخليجيّة!…
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 18 جويلية 2023