الشارع المغاربي: قال بونابارط “الدولة هي أنا” . وقال بورقيبة: ”النظام هو أنا” . وقَول بورقببة أذكى من قول بونابارط.ادّعى بونابارط أنّ شخصه يختزل”الدولة” التي هي ، بالمفهوم الحديث، مَجمَع المؤسّسات، وعَقد مدوّن وضمنيّ يحتكم إليه المواطنون ويحملونه في وعيهم الجمعي. فهذا الإدّعاء لا يستقيم إلا استبدادا.فمرجعيته هي أزمنة ما قبل الدولة الحديثة؛ تلك الأزمنة التي كانت تتسمّى فيها الدول بأسماء حكامها وتحيا بحياتهم وتموت بموتهم. إنها الأزمنة التي لم يكن فيها فصل منهجي وإجرائي بين”الدولة” و” السلطة”، ولم تَجرِ فيها النقلةُ”من الزعيم إلى المؤسسة” بعبارة ”ج. بوردو” .
لكن قول بورقيبة الذي تأباه لا محالة التقاليد الديمقراطية الراسخة، إنما يُضمِر ذالك الفصلَ التحديثيّ. فهو لم يدّع بقوله ذاك أنّ شخصه يختزل ”الدولة” وإنما ادّعى أنه يختزل»النظام» الذي هو، بِقَدر من التّجوّز، ”السلطة” . وقد يكون هذا الإختزال جائزا في الأطوار التأسيسية، ومتاحا للزعامات الكاسحة كزعامة بورقيبة التي دمَجت بعضَ شرعيتها السياسية في شرعيتها النضالية.
وأغبَى من ذينك القولين محمولُ العنوان المذكور أعلاه. «فصدارة» القولين(mise en valeur) هي”الدولة”و”النظام” يُخبر عنهما ”الأنا” . فهما مركز العلاقة الخَبَرية. لكنّ صدارة العنوان هي»الأنا» بِمَا هي مبتدأ تُخبر عنه”الدولةُ .” فهو الصدارة وهي المسندة إليه.
والعنوان مشتقّ من علاقة ”سعيد” الراهنة بدولة تونس. هو لم يتلفّظ به حرفيا. لكنه كرّسه فعليا. كرّسه دستوريا وكرّسه سياسيا.
1/أنا الدولة دستوريا
استهل سعيد اختزاله الشخصي للدولة باختزاله للسلطة. وأدَاتُه في ذلك هي المرسوم 117 الذي به وضع تحت يده كلَّ أجهزة السلطة وهياكلها ومواطن نفوذها، فصار مركزَها الأوحد. ثم مرّ إلى الدولة متوخّيا الوثبَ العاليَ والطويل بين فصول الدستور السابق، فاختزلها في شخصه اختزالا كاملا شاملا.
وإنّ القاعدة الدستورية التي يُجمِع عليها فقهاء القانون الدستوري هي أن” الدولة هي أساس السلطة” . وتصريف ذلك أن أجهزة السلطة وهياكلها ومناهج تصريف الحكم إنما تقوم كلها على مقتضى مؤسسات الدولة وعقدها الدستوري، فضلا على تقاليدها وأعرافها وقيمها التي يستبطنها وعيُ المواطنةِ الجمعيُّ. ولمّا كانت الدولةُ مجمعَ مؤسسات غير ثابتة، متجدّدةً على مقتضى النّوازل، فإن سُبل تجديدها وتطويرها تكمن في عقد الدولة نفسه. فهذا العقد يلزم السلطة بأن تقترح،باسم الشعب، تعديله من داخله.
لكن سعيد انتهج ما حاول إخوان النهضة انتهاجه. فقد قَلَب القاعدة الدستورية قَلبا كاملا. ذلك أنه أحكَم قبضتَه الشخصية على السلطة وعلى قوة الحكم فيها، ثم مرّ، بتدرّج سريع مُبيّت، إلى إعادة صياغة الدولة بناء على سطوته على السلطة. فقد قَلَبَ القاعدة الدستورية. وبؤرة هذا القلب هي تكريسه الشخصي لهوية الدولة بتكريس دستور شخصي في مبادئه وأحكامه وفي روح الدولة المبثوثة في فصوله. فالدولة كيان مجرد علامته الأظهر هي الدستور. لقد رسخ سعيد بذلك ما بيانه:أنا الدستور إذاً ، أنا الدولة.
وما مِن غُلوّ في ذلك ولا تَجَنّ. إذ لم يُسهِم أحد سواه في» دستوره»، ولم يُحظ بإسناذ شعبي يُعتدّ به، ولم يُعِر اهتماما بتوابعه الإنتخابية تسعةُ أعشار التونسيين. وبقدر ما جَرَّ سعيد الدولة والسلطة على شكل قدمَين على رأس، فقد استقوى بالسلطة فنسخ (abroger) كل مؤسسة في الدولة قابلة للإستواء بذاتها، وكلّ هيئة دستورية أو وطنية أو جهة تعمل وفق عقد الدولة الجامع عَمَلا مستقلا عن الجهة الحاكمة. كما نسخ كل جهة تعديل لنفوذه التنفيذي والتريعي وكل سلطة مضادة له أو موازنة.
لقد صار شخص الرئيس هو الدولة والسلطة والتشريع والقضاء والإدارة والرقابة والحكومة والتفقد. وإن بقيت هيئة أو جهة لا بد منها، فقد قرّر لها وحده أدوارَها وضبط لها مجال حركتها وتخيّر لها أعضاءها وأوقَعهم تحت سيف الإعفاء الذي يُشهره على الجميع.لقد قال سعيد بصريح الفعل: أنا الدولة دستوريا.
2/أنا الدولة سياسيا
وبصريح الفعل أظهر سعيد ما بيانه: أنا الدولة سياسيا. أظهره بمفهوم السياسة الموسع الذي ضِمنه تصريف الشأن العام. فقد عَمل ما في وسعه من أجل أن يَخلوَ المجتمع من دابر السياسة وأن يحتكرها لنفسه بِقَصرِها على الدولة دون سواها ، الدولة التي هي هو. وإن بقي كيان سياسي خارج الدولة صَامد، حاصره حصارا ملتويا. وإن عيّن رئيس حكومة أو وزيرا،ضبط للإختيار شرطَ الغربة عن السياسة بالفكر الخاوي واللسان العِيِّ. فسياسة الدولة عنده كرسي لا يسع أحدا سواه ولا قولا بخلاف قوله.
ويتولى سعيد تصريف الشأن العام بقيامه الشخصي بكل ما تقوم به هياكل السلطة وأجهزة الحكم ومؤسسات الدولة. فهو القائم على مواد البناء والمخابز وتوزيع الخضر والمواد الأساسية والإدارات والبنوك وعدادات الماء والكهرباء…. وإنّ منهجه في تصريف كل ذلك واحد، وهو التنديد بالمحتكرين وقاطعين الماء والمتآمرين والمضاربين و«المتكرتلين». وكلما خاض في شأن خوضا وجيها أو مفتعلا كانت الحصيلةُ هي تدهوره أو انفراجه المؤقت الذي يعقبه تدهور، وإن أحال على القضاء متهمين، أحالهم غالبا بالإدانة الباتّة يصدرها قبل القضاء، متوعدا إياه بالإدانة إن قضى لاحقا بخلاف ما قضى هو مسبقا.
وآخر تحرك سياسي قام به سعيد شمل قطاع البنوك العمومية. وهو تحرك أظهر به أنه الجهة الوحيدة في الدولة التي تقف على الإخلال والإفساد، وأنه شخصيا الدولة التي تحمي»مال الشعب التونسي» الذي لا نعلم متى سيستردّه من البنوك، ولا نعلم أن بنكا ردّ يوما مالا لشعب، خارج خطاب التّعبير الشعبوي الموجّه للغَفَلَةِ.
وإذا قصرنا القول على ما دار في البنك القومي الفلاحي، فإن الإذعان للحقيقة يقتضي الإقرار بأن قروضا بالحجم المذكور لا يجوز إسناده بلا ضمانات ، لا سيما إذا لم تكن الضمانةُ هي جدوى المشروع الإستثماري المُموّل بالقرض.
ثم إن البنك القومي الفلاحي هو فعلا بنك قطاعي مخصص لتنمية مجال محدّد، شأنه في ذلك شأن بنك الإسكان. ذلك أنّ الدولة الوطنية قد أنشأت البنك القومي الفلاحي للنهوض بالقطاع وبإقراض الفلاحين وتمكينهم من سيولة يوسّعون بها أنشطتهم التي تصب في خانة قطاع ذي أولوية استراتيجية.
لكن خوض سعيد في انحراف البنك عن أدواره قد أظهر به أنّه الدولة كلها. فقد أعدّ تلك الملفات بنفسه، والقول له، وعاين الإنحراف فيها، واستدعى عنصرَين من لجنة التحاليل المالية، شاهدَين آنِيَين على مَا لا عِلمَ لهما به مسبقا، لا خبِيرَين استأنس بهما استئناسا مسبقا. واستكمل سعيد المشهد الشعبوي بالتصوير والبثّ للعموم، ما وضع ممثّلَيْ البنك في موضع إدانة لا نعلم ما ستفضي إليه. فكأن الدولة التونسية لم تنجب خبراء ولا متفقدين ولا هياكل رقابية ولا أعوان متابعات لاحقة وجهات محاسبة. وكأن الدولة لا حامي لها أحد سواه، ولا سلطة على الفساد خارج سلطته ، ولا وصيّ على”مال الشعب” أحد سواه، ولا ناطق باسمه وباسم دولته أحد سواه. إنه ، باختزاله للدولة اختزالا سياسيا شاملا، إنما يخوض حربا”دونكشوتية” لا نَصرَ أبدا لِفَرديته فيها، سواء خاضها” في البر أو في البحر أو في الجو أو تحت الأرض” .
فقد سبق له أن اختزل سياسة الدولة في شخصه وخاض في قطاعات عديدة. فهل حصل تحسّن في أي منها؟ و ما الجدوى في حصر الخلل والزج المستحق” بالفاعلين” في السجن، إذا لم يصاحب ذلك تصورٌ سياسي جديد يتدارك على الأسباب التي أدت إلى تلك الإخلالات والمفاسد ! فالإبقاء على الأسباب نفسها يفضي إلى النتائج نفسها، وسيحِلّ مضاربٌ محلّ مضاربٍ وفاسدٌ محلّ فاسدٍ، ومهرّب محل مهرب، ومحتكر محل محتكر، وخطاب شعبوي محل خطاب من جنسه، وأنا الدولة سياسيا محل الدولة ”القيسية” التي هي نسيج وحدها لأن مَن نسَجها واحد”ليس كمثله أحد”، كما قال ذلك الخطيب المُفوّه.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 19 سبتمبر 2023