الشارع المغاربي: بالأمر عدد 588 المؤرّخ في 21 سبتمبر 2023 أصدر رأس الحكم في تونس الدعوة إلى انتخابات أعضاء “المجلس الوطني للجهات والأقاليم”. واتّصل بالدعوة تقسيمٌ للبلاد التونسية إلى أقاليم يجري من مجلسها الصعودُ إلى مجلس الجهات والأقاليم، وهذه يجري إليها الصعودُ من مجالس في مستوى الولايات، وإلى هذه يجري الصعودُ من مجالس في مستوى المعتمديات التي يكوّنها أفراد منتخبون في مستوى العمادات. وهكذا تتراكب صُعُدا طوابقُ”البناء الشاهق”.
1/مبدأ التقسيم:
يبدو تقسيم البلاد التونسية إلى أقاليم خمسة الصادر في الأمر المذكور تقسيما مفتعلا. ولعل الوجاهة الوحيدة التي فيه هي كونه ترجمانا لتصوّر لدى صاحبه، وقد أسقطه على تونس من عَلٍ سياسي مُتداعٍ غير شاهق. فليس أرض تونس في حجم روسيا ولا تعداد شعبها في حجم الصين أو الهند. ولم يحصل في تونس التي يربط بين طرفيها نحو 700 كلم أن تعطّلت فيها لغةُ الكلام الرسمي بين الجهات والمركز تعطلا اقتضى كيانات إقليمية وسيطة.
ثم إن تقسيم البلدان الأخرى إلى أقاليم قد اقتضته فيها ضروراتٌ وإكراهات.و إن هذه الضرورات والإكراهات هي غالبا سابقة اقيام الدول فيها أو مرافقة لمخاض قوامها العسير. وقد أصاب صديقنا السياسي حاتم مليكي بالتذكير بهذا المعطى. ذلك أن تقسيم البلدان إلى أقاليم غالبا ما يقتضيه فعلا وجود كيانات متمايزة سابقة لإنشاء الدولة. وقد يكون هذا التمايز بين الكيانات التي داخل الدولة تمايزا عرقيا أو ثقافيا أو لغويا أو حصيلة حروب ومغالبة. وعلى ذلك يجري التقسيم إلى أقاليم تحظى بقدر من التدبير الذاتي. والهدف هو الملاءمة بين ذلك التمايز الذي تتمسك به الأقاليم من جهة، ووحدة الدولة من جهة ثانية. كما قد يبعث على التقسيم الإقليمي اتساعُ مساحات البلدان وكثافتها السكانية، ما يمنع السلطة المركزية من الإلمام الحَسَن السلس بمشاغل المواطنين أنّى كانوا. ومثلما ينطلق هذا الإقتضاء وذاك على التقسيم الإقليمي، ينطلق على الأنظمة”الفدرالية” و”الكونفدرالية”. وفي هذه الحالات كلها، يكون للإقليم أو للكيان داخل الفدرالية أو الكونفدرالية سلطة تنفيذية وبرلمان وسائر الأجهزة والمؤسسات الأخرى. فبخلاف تونس البناء الشاهق، لم تقسم دولة نفسها بعد طول تجانس من دون اقتضاء واضح أو هدف جلي يتعدى ما يعتمل في ذهن مَن له القرار.
2/اعتباطية معيار التقسيم
اتبع صاحب التقسيم خريطة تونس اتباعا عموديا يجلوه ترقيم الأقاليم من واحد إلى خمسة. فالإقليم رقم 1 هو بنزرت وباجة وجندوبة والكاف. ورقم 2 هو ولايات تونس الأربع ونابل وزغوان. ورقم 3 هو سوسة والمهدية والقيروان وسليانة والقصرين. ورقم 4 هو صفاقس وسيدي بوزيد وقفصة وتوزر.و رقم 5 هو قابس ومدنين وقبلي وتطاوين.
وهذا التقسيم المرقّم، وفق وضع خريطة تونس العمودي، قد خالف به صاحبه”البناء القاعدي” المُحبّب إلي عقله السياسي.فمنطق البناء القاعدي يقتضي الإبتداء من قاعدة الخريطة لا من رأسها، فيكونَ الإقليمُ رقم 5، وهو قاعدة الخريطة، إقليما رقم 1، والإقليم رقمُ 4 رقمَ 2 وهكذا. فقد سبق لرأس الحكم أن بنى “الدولة”على”السلطة”على هيئة قدمَين تَعلُوان رأسا. وكان عليه أن يحافظ، في مجال التقسيم والترقيم الإقليميَين، على هذا المذهب.
ولا يلوح في هذا التقسيم الخماسي إلا معيار واحد، وهو “توجيه” الأقاليم إلى البحر. فكأن المقصد هو الحث على السباحة وركوب الخيل كما جاء في” الحديث”. وكأنّ البحر ممتنع على الولايات قبل هذا التقسيم، وكأنها ستتحرك إليه”جيولوجيا” بعده.
إنّ هذا “التوجيه”، على هذا النحو الإنتخابوي المُمَوّه “بالتنمية اللغوية”، هو توجيه اعتباطيّ ويستبطن بسذاجة غالبة التدارك على التفاوت بين الجهات. فليس لهذا للتفاوت أن يزول بهذا التقسيم اليوم أو غدا. لا بل إنه عَمَّاق له جلّاب. فعدد سكان الإقليم الثاني، الذي يضم ولايات تونس الكبرى ونابل وزغوان، يناهز الخمسة ملايين، أي نجو 40% من سكان البلاد، ويبلغ نحو 50% منه نهارا. ومساحة هذا الإقليم نحو 30% من مساحة البلاد. ويقابله الإقليم الخامس الذي يضم قابس وقبلى ومدنين وتطاوين بعدد سكان دون المليون وبمساحة تناهز 40 % من مساحة تونس.
فهذا التفاوت الذي له أشباه بين الأقاليم الأخرى إنما يظهر اعتباطية التقسيم وخلوّه من آفاق الحدّ من التفاوت التنموي بين الجهات، سواء بالأسباب المتحركة التي منها التعداد السكاني الذي هو من محركات التنمية، أو بالأسباب المهدورة التي منها مساحة الإقليم رقم 5 أو في مساحة غيره غيره . وليس اتساع مساحة الإقليم رقم 5 باعثا على تنمية ممكنة بإعداد سكانه هذا. وإذا قال قائل ما المانع من انتقال الرصيد البشري الذي في الإقليم الثاني أو في غيره إلى الإقليم الخامس ذي الكثافة السكانية الضعيفة؟.قلنا لا مانع، لكن ما الموجب، والحال تلك، لهذا التقسيم. فمناطق تونس هي بلد التونسيين كافة، ولا حاجة إلى افتعال تقسيمها إلى أقاليم مرقّمة كأنها أحجار “كيلومترية”.
إن الهاجس الإنتخابوي الكامن في مشروع فردي لَهَج به صاحبه لهجا قد أغفله عن التجارب الناجحة في هذا الشأن. وإن التجربة الصينية التي سبق لنا عرضها في حوار تلفزي هي تجربة قد يجدر الإستئناس بها استئناسا متعاليا على هذه الشعوذة. ذلك أنّ حكّام الصين قد انطلقوا منذ عقود مِن أنّ شرق بلادهم ناهض وغربها متخلف. فنظروا في خريطة بلادهم شبه المستطيلة وفي جناح فيها شرقي، فأحكموا الوصل الثنائيّ بين كل منطقة في الشرق ومقابلتها التي في الغرب. وجاء ذلك وِفق درس معمق لأسباب التكامل الثنائي الذي به تَقطُر الجهةُ النامية مقابلتَها غير النامية. واستكملوا ذلك بخطوط سكك حديدية واصلة شاملة. فهذا الهدف هو بعض ما دفع هذا البلد إلى أن يصنع أسرع القطارات في العالم.
وثمة أنموذج ثان رائج في بلدان شتى، وهو التقسيم التكاملي على أساس أقطاب إقتصادية تتألف من جهات تتشابه خصائصها وتتكامل نواقصها وأسباب القوة الكامنة فيها. وبهذا التأليف يختصَّ بالغَلَبة كلّ قطب بقطاع تنمية مخصوص توجَّه إليه الخيارات السياسية توجيها ممكنا غيرَ مفتعل، كأن يكون الغالب على هذا القطب الفلاحة وعلى ذاك الصناعات الكبرى وعلى ذلك الصناعة الجزئية وعلى رابع الخدمات وعلى خامس الصناعة الغذائية التحويلة وعلى سادس التكنولوجيا إلخ… فالإقتصاد يحكمه منطق داخلي كامن فيه. فهو كالماء الذي يتبع في سيره المنحدرات إلى المصبّات؛ الأقطاب. هكذا استخلص من تاريخ الإقتصاد العلامةُ “برودال”. وإنّ التدبير السياسي، وفق فكرة الأقطاب الإقتصادية مثلا، إنما بساير منطق الإقتصاد كما يساير منطق جريان الماء، وذلك بأن يوجّهه توجيها فطنا يراعي نزوعه إلى المصب؛ القطب، فيتحكّمَ فيه بمسايرة منطقه لا بعكسه أو برسم مساره في الرائد الرسمي وبالتنمية اللغوية.
/3استئناف المشروع الإخواني
تنبّهت السياسية عبير موسي إلى أنّ هذا التقسيم الذي يهدد تماسك الدولة والمجتمع هو استئناف للمشروع الإخواني. وقد أوقع الحرصُ على هذا الإستئناف صاحبَ التقسيم في خطأ قانوني فادح. فالسند القانوني لتقسيمه هو قانون 2018 المنظم الجماعات المحلية. ويتصّ على أن يصدر تقسيم البلاد إلى إقليم بقانون يصدّق عليه البرلمان. لكن رأس الحكم أصدرها بأمر إصدارا لن يصمد أمام القضاء الإداري النزيه.
وإن تقسيم البلاد إلى أقاليم لم يبتدعه رأس الحكم الراهن. فهو، من منظور آخر، إخواني الأصول من زاوتين اثنتين. أما الزاوية الأولى فهي أنّ هذا التقسيم هو نسخة شبه مطابقة للتقسيم الذي وضعه على أيام الترويكا الإخوانية مركز الدراسات الاستراتيجية الذي مرجع نظره الرئاسة التي كان ماسكها وقتئذ المرزوقي. ومن شاء التثبت فعليه بالنظر في التّقسيمين، وهو متاح.
وأما الزاوية الثانية التي تظهر أن مهجة الحُكم الراهن هي مهجة الحُكم الإخواني، وإن ساءت الشراكة، فهي أن مجلة الجماعات المحلية قد صدرت وفق دستور 2014 الذي سنّ نظاما سياسيا برلمانيا. فالروح التشريعية الناظمة لها هي الناظمة له.لا بل إن بعض فصولها هي استنساخ لبعض فصوله. والمراجعة على ما نقول متاحة بدورها. على ذلك تُخالِفُ، إلى حد التناقض الصارخ، الروحُ التشريعية الناظمة لتلك المجلة، المشتقةُ من برلمانية الدستور السابق، روحَ الدستور الراهن الرئاسوي أو “الفرعوني” بعبارة العميد الصادق بالعيد. فقد كان وجيها أو مستوجبا أن حلَّ المجالس المجالس البلدية يعقبه إلغاءُ مجلة الجماعات المحلية أو تعديلها وفق الدستور الراهن. فلا معنى للإبقاء على قانون قد انتسخ كلُّ ما ترتب عليه وكل ما نشأ على مقتضاه.
لكن إبقاء رأس الحكم عليها إلى اليوم، على ما بينها وبين دستوره من تناقض صارخ، إنما لأنه قد بَيّتَ مسبقا أن يبنيَ على قانونها “أمرَ” التقسيم الإنتخابي عدد 588. وهو تبيِيتٌ بَعِيدُ الغَور والتدبير تمنّينا لو وجّهه صاحبه إلى خير البلاد الفعلي. وبالإبقاء تلك المجلة إبقاءً مُحيّرا وقتئذ، وبتأجيل الإنتخابات البلدية إلى أجل غير مُسمّى، رغم أن النفايات أضحت من أركان الشوارع والأنهج، أمكن لرأس الحكم، المشهود له بالنظافة وببراءة الأطفال، أن يستكمل ما لم يستكمله الإخوان. فهو، وإياهم، “في فلك واحد” كما قال منذ بضعة أشهر أحدهم مِمَّن فهموا كما فَهم رأسُ الحكم دعوة بريطانيا؛ حُضنِ الإخوان الأول والتاريخي، إلى أن “تجدد الحركات الإسلامية نفسها من الداخل”. وهي دعوة تضمر أن” القادة التاريخيين” قد ولَى زمانهم وانتهى مفعول أوراقهم. ومن عجيب الصدف أن اعتقال الغنوشي قد تمّ بَعد تلك الدعوة بأيام. وإنّ بعض الظّنّ في هذا الربط إثم ورَجمٌ بالغيب. غفر الله لنا.) يتبع) .
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 26 سبتمبر 2023