الشارع المغاربي: أليس وجيها أن يكون للمدرسين مطالب يحتجون من أجلها عند الإقتضاء؟ هل كان مستوجبا أن يحتجّ قطاعُ المعلمين بحجب أعداد التلاميذ حصرا؟ وأن تتجاهل نقابتُهم العامة استفرادَ السلطة بهيكلهم النقابي بعد أن حيّدت نظيره في التعليم الثانوي بصفقة سياسية؟ هل كان لزوما أن تتصلب السلطة إزاء المعلمين تصلبا قصِيّا وأن تصنع فجوة أولى بينهم وبين الأولياء وثانية في صف المعلمين وثالثة في صف المديرين؟ هل كان ضروريا أن تنتظم ، بتدبير مدروس، حملةُ ترذيل للمعلمين ولهيكلهم النقابي القطاعي و”العام”؟.
1/هل ينصف التأجير المعلمين؟
يتأكد اليوم أن نظام التأجير في تونس لا ينصف المدرسين. ويثبت ذلك مقياسٌ محايد، وهو مقياس التنظير بينهم وبين غيرهم من الأجراء العموميين. فأجرة المعلم الحاصل على الباكالوريا وعلى عشرين سنة من الأقدمية تساوي أجرة عريف في الديوانية أو في الأمن مبتدئ، غير حاصل على الباكالوريا. وحين يتقاعد هذا العريف تقارب جرايتُه ضعفَ جراية تقاعد أستاذ في التعليم الثانوي أو الأساسي. وإنّ معلما متخرجا من المعهد الأعلى للمعلمين،أي بكالوريا زايد 2، ذا أقدمية بثلاثين سنة، تعادل أجرتُه أجرة عريف أول في الديوانية مبتدئ، حاصل على الباكالوريا فحسب. وإن أجرة معلم أو أستاذ مبتدئ، حاصل على الإجازة أو الأستاذية، تساوي أجرة عامل في قباضة مبتدئ وتقارب أجرة عامل بلدي مبتدئ. وإن أجرة إطار بنكي عمومي تقارب ضعف أجرة نظيره، شهادةً وأقدميةً، في التعليم. وإن أجرة سائق حافلة في النقل العمومي تفوق أجرة أستاذ حاصل على الإجازة وعلى الماجستير وإن فاقه أقدميةً. وإن أجرة قاض مبتدئ حاصل على الإجازة وعلى سنتي تكوين في المعهد الأعلى للقضاء، أي بكالوريا زايد 5، تساوي أجرة أستاذ محاضر في الجامعة ، يمكن تقدير مؤهلاته، علميا ومهنيا، ببكالوريا زايد 12 على الأقل.
2/هل يصح احتجاج المعلمين بحجب الأعداد؟
يدرك عموم المدرسين أنهم ضحايا حيف في التأجير، على خلاف ما كانوا عليه قبل نحو خمس عشرة سنة. وإزاء تجاهل السلطة لهذا الحيف ولِتَبعاته الوطنية، احتج المعلمون. وقد اختاروا حجب أعداد تلاميذهم وسيلة ضغط واحتجاج.
وليس هذا الإختيار بكارثة. وفي الآن نفسه ليس بالسليم. هو ليس بكارثة تربوية أو إنسانية، وإن راج ذلك، لأن حجب الأعداد حجبا رسميا لا يفيد أنها غير متاحة للتلاميذ والأولياء. وقد وضع أغلب المعلمين والمديرين تدابير يتسنى بها للأولياء الحصول على الأعداد واحتساب المعدلات.
لكن هذا الحجب ليس في المقابل بالخيار السليم من زوايا ثلاث. الزاوية الأولى أنه أدرج شأن التلاميذ في احتجاج لا يجب أن تكون لهم به صلة مباشرة. الزاوية الثانية أن هذا الحجب قد وسّع دائرة المشكل فتعدّى الإطار التعليمي وصار، بتدخل أولياء التلاميذ، قضيةً إعلامية ومجتمعية وسياسية. وبهذا التوسع ، تعددت اطراف المشكل، وتشابكت حساباته، بما فيها تلك السياسية الرسمية. الزاوية الثالثة أن النقابة العامة للتعليم الأساسي قد غفلت ، باختيارها ذاك الحجب، عن توقّع أن تعمَد السلطة إلى فعلها المعهود البائس، وهو تأليب الرأي العام على المعلمين، وهذا ما حصل هذه المرة بشطط وغلوّ وإصرار.
3/لماذا تتصلب السلطة؟
خضعت المواجهة بين السلطة والنقابة العامة القطاعية لموازين القوى ولم تخضع لأي اعتبار آخر، وطنيا كان أو تربويا. وبانتهازية سياسية ، أحسنت السلطةُ قراءةَ تلك الموازين فتصلّبت وام تحسن ذلك النقابة فلم تُتقِن المناورة، لأنها اختارت نمط ضغط يقتضي منها قوةَ المواجهة ليست متاحة لها.
لم تحسن النقابة قراءة موازين القوى، لأنها لم تدرك أنها فاقدة لتلك القوة المطلوبة لسببين اثنين، عام وخاص. أما السبب العام فهو غفلة النقابة القطاعية عن كون الإتحاد العام التونسي للشغل، سندا للإحتجاح ومظلةً له مُفتَرضَين، قد أنهك نفسه بنفسه إنهاكا تيسّر به للسلطة أن تضعه في زاوية القصور. فهو اليوم ليس بالجدار الذي يمكن أن تستقويَ النقابةُ القطاعية بحمايته وباستنهاضه للتضامن النقابي الموسع.
وأما السبب الخاص فهو غفلة نقابة الأساسي العامة عن كون السلطة قد هيأت أسبابَ استضعاف القطاع وهيكله والإستفراد بهما ، بعد أن حيّدت قطاع التعليم الثانوي بصفقة بين”الحاكم النقابي”البوغديري، و”النقيب الحكومي” اليعقوبي.
لكن السلطة أحسنت قراءة موازين القوى. فقد راهنت على وَهَن المنظمة الشغلية وعلى عزلة النقابة العامة القطاعية، فأظهرت تصلبا قصيا مغاليا ، دفعت به العلاقة بينها وبين القطاع إلى مواجهة أرادت بها إخضاعه وتركيعه. فقد أقرت إعفاء المديرين وحجب أجور المدرسين والتلويح بآفاق أخرى قد تبلغ درجة التنكيل والرفس بالقضاء، كما نادى بذلك أحد بطانة السلطة.
وفوق ذلك حادت الوزارة بالمواجهة عن سياقها النقابي إلى الحسابات السياسية المتعلقة”بقوة الدولة” التي لا نراها إلا ها هنا، وبأن المعلمين يعادون، بطريقة احتجاجهم، مسار 25 جويلية “المقدس”و صانعه المفدّى، ذاك الذي قارع البنك الدولي، كما قال الوزير النقابي جدا، فكيف، ضمنيا، بالمعلمين ونقابتهم المعزولة و”اتحادهم العام” المُهترئ!.
4/هل يصح ترذيل المعلم؟
لعلنا لم نتصور جميعا أن يكون نظر السلطة قصيرا إلى هذا الحد، حسيرَ الأفق إلى هذه الدرجة. ذلك أن وزير التربية قد انخرط في خطاب ترذيل المعلمين ترذيلا غريبا تقدّه عبارات “المقاومة”و” الفضائح” و” الإجرام”، فضلا على صيغ التحدي والمغالبة ونحو ذلك مما يشتقّه، بَبَّاغاويا، من رأس السلطة. وقد يكون ذلك متوقعا من وزير أكد الحقيقة التي تتكرر دائما ، وآيتها أن النقابي أو اليساري الذي يمسك السلطة يكون سلطويا أكثر من السلطة، فيسخِّرَ لها سوابق تجاربه وعلاقاته تسخيرا يتعدى حدود العقلانية الكامنة في الدولة التي يأتيها وافدا شريدا غريبا على بنيتها المؤسسية.
لقد أشاع الوزير، إزاء المعلمين، لا خطاب التشويه والترذيل والحط من المنزلة فحسب، وإنما خالطه بخطاب الوعيد والتهديد والتخويف. وإنه خطاب جعل من المعلم خروفَ تضحية في معبد السياسة، به يعلو رأس السلطة على الجميع ويقوَى من”قوة الدولة” التي لا ينفك عن التذكير بأنها “هناك”. فلعل الوزير، ناطقا بلسان الرئيس وحريصا على إخافة المعلم وعلى جعله فديةَ ذبح سياسيةً، إنما يعارض بيت الشاعر أحمد شوقي ببيت:” قم المعلم وفِّه التّخوِيفَا/ كاد المعلم أم يكون خروفا”.
وتأثرت خطى الوزير حملةٌ “مواطنية” أبعد ما تكون عن العفوية والتلقائية سواء في شبكات التواصل أو في إذاعات معلومة الهوى، موضوعها “إجرام المعلم وجشعه، وافتقاره للأخلاق والمسؤولية” تتخللها إشادة شعبوية بائسة بالوزير المنكل بالمعلمين وبالرئيس الذي لا تعلو قوة على قوة دفاعه عن”أبناء الشعب”.
ولم يَظهَر في كل ذلك أدنى وعي بأن تشويه المعلم إلى هذا الحد إنما هو ضرب في مقتل لنظامنا التعليمي العمومي المسكون أصلا بكل الأوجاع وكل العلل في مختلف مفاصله. كما لم يَظهَر أدنى وعي بما سيكون عليه مُفتتح السنة الدراسية القادمة، وبما ستكون عليه علاقة الأولياء بالمعلمين. وإنّ مِن المرجّح جدا أن تحثّ حملة التأليب على المعلمين لفيفا من الأولياء على استصغار المعلمين وعلى التطاول عليهم بمختلف الأشكال، و”ها هي مرشومة”، في انتظار السنة الدراسية القامية.
5/هل يجب تقسيم المقسَّم؟
لا نعلم في التاريخ أو في الراهن ولعا بتقسيم الشعب يضاهي ولع رأس السلطة التونسية به. فقد قسم الساسة إلى خونة ومخلصين، وقسم المواطنين إلى صالحين ومأجورين ، وقسم رجال الأعمال إلى فاسدين وغير فاسدين، وقسم الفاسدين إلى فاسدين وفاسدين جدا، وقسم البلاد إلى أقاليم، والأقاليم إلى وحدات ترابية توحي بأن مساحة تونس تضاهي مساحة استراليا أو روسيا وأن تعداد شعبها يضاهي تعداد شعب الهند أو الصين.
وزاد اليوم على ذلك التقسيم بتقسيم بين المعلمين النقابيين وزملائهم غير النقابيين، وبين المعلمين والتلاميذ، وبين المعلمين والأولياء، وبين المعلمين الحاجبين وزملائهم غير الحاجبين، وبين المديرين والمعلمين، وبين المديرين المقالين والمديرين غير المقالين، وبين المديرين المستقيلين وزملائهم غير المستقيلين اخ….فأي عقل سياسي هذا الذي يدير اليوم الشأن العام في تونس!؟.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 18 جويلية 2023