الشارع المغاربي: لم أكن أتصوّر أنّني سأخصّص مقالا، ولو مختزلا، للتوقّف عند الجدل المُثار في تونس خلال الأيّام الأخيرة حول ما يُسمّى بـ “مملكة أطلانتس الجديدة” واختراقاتها في البلاد. وبما أنّها باتت على كلّ لسان حتّى لا نصفها بقضيّة رأي عام، فإنّه من الأجدى التطرّق لها رغم أنّها أتت لتُغطّي على قضايا أهمّ منها بكثير…
يعود هذا المسمّى )أطلانتس) تاريخيّا، إلى ما جاء في بعض الأساطير بشأن جزيرة بحجم قارّة كانت تحمل هذا الاسم، وبلغت من التطوّر العلمي والهندسي في غابر الزمان ما جعلها تحكم العالم. ثمّ اندثرت تمامًا بعد أن غرقت في أعماق المحيط الأطلسي. وقد قيل إنّ الفيلسوف الإغريقي أفلاطون كان قد ذكرها في بعض حواراته، غير أنّه لا وثائق تاريخيّة أو بحوث علميّة تؤكّد وجود تلك المملكة فعليّا. أمّا ما يهمّنا اليوم من الانبثاق الجديد لـ “مملكة أطلانتس الجديدة” فيكمن بالخصوص في ترويج الحزب الحرّ الدستوري ورئيسته لمدى خطورتها هذه المملكة التي في طور التأسيس على “سلامة التراب الوطني” وما تسبّبت فيه من “اختراق للمؤسّسة التشريعيّة”، جرّاء تولّي نائبة رئيس البرلمان لحقيبة وزاريّة في تلك الدولة المزعومة…
كيان افتراضي صرف!
”مملكة أطلانتس الجديدة” Kingdom Of New Atlantis (KONA) هي كيان افتراضي يزعم المُبشّرون به أنّه يُشكّل “مملكة” لها حكومة ووزراء، وأنّها بصدد استقبال طلبات الحصول على جنسيتها، دون أن يكون لها وجود فعلي على أرض الواقع إلى حدّ الآن. ومع أنّ مسؤولي هذا الكيان يُقِرّون بأنّ وجود مملكتهم حاليّا افتراضي ولا مركزي، فإنّه حسب ما يتّضح من خطابهم أنّ لهم رغبة فعليّة في العمل على استيفاء شروط تكوين مملكتهم، أي عبر حيازة أرض ورسم حدود، أو ما يسمّونه باختيار “الإقليم السيادي” وتحديده نهائيا في فترة قريبة جدّا…
وحسب ما ورد في الصفحة الرسميّة للكيان المذكور في شبكة “فيسبوك”، فإنّ هذه “المملكة” كانت قد أعلنت عن تأسيسها رسميّا بتاريخ 16 أوت 2021 من قبل ملكها المزعوم هارون إيدن (ذي الجنسيّة التركيّة). وقد نشرت نصّ “دستورها” (باللغات التركيّة والعربيّة والإنجليزيّة والفرنسيّة) بعد أقلّ من شهرين من إعلان تأسيس “المملكة”، فبات لا يضاهيها في سرعة سنّ دستورها إلّا دستور الجمهوريّة التونسيّة الجديد الذي لم يستغرق إعداده أكثر من شهر واحد قبل إصلاح ما ورد فيه من أخطاء. كما اختارت “المملكة” المزعومة علمًا يحمل ألوان علم “جيبوتي” (الأزرق والأبيض والأخضر) وأضافت له شعارًا مكوّنًا من أسدين وتاج ملكي وحمامة وغصن زيتون رمزا لشعارها المتمثّل في ثلاثية “السلام والعدل والحريّة”. وفي منشور لها على صفحتها الرسمية، تقول إنّ “حكومة مملكة أطلانتس الجديدة لم تُقرّر بعد موقع إقليمها السيادي رغم وجود خيارات مثل تركيا وبعض الدول الإفريقيّة والأوروبيّة، وحين يتقرّر ذلك الأمر خلال الأسابيع القادمة سيتمّ الإعلان رسميّا عن الإقليم السيادي للمملكة”. صدر هذا الإعلان في منشور بصفحتها بتاريخ 16 أكتوبر 2021.
وتشير بعض الصور المنشورة في إحدى صفحاتها على شبكة “فيسبوك” إلى أنّها انطلقت في وضع المخطّطات الهندسيّة للدولة المزعومة. والأكثر من ذلك أنّها حدّدت التكاليف وأسعار المباني المعروضة للبيع في مكان غير معلوم إلى حدّ الآن. كما نشرت نماذج لعملة المملكة وجواز سفرها وبطاقة الهويّة…
ومن المثير للسخرية أنّ المشرفين على الصفحة الرسميّة لهذه “المملكة” يخطئون هم أنفسهم، بين الحين والآخر، في كتابة اسم مملكتهم… ومجرّد زيارة قناة “يوتيوب” التابعة إلى ما يُسمّى بـ”الموقع الإخباري لمملكة أطلانتس الجديدة)أرض الحكمة) Kona News” نجد أنّ لها 5 مشتركين فقط. وهو عدد يقلّ حتّى عن عدد وزراء هذا الكيان الذي لا يزيد عن كونه مجرّد صفحة على شبكة “فيسبوك” مثل الصفحات المؤسّسات الدوليّة الوهميّة الكثيرة التي تُسند بيُسر تام شهادات الخبراء والمدرّبين الدوليّين وألقاب السفراء فوق العادة للمشتركين فيها من باب الدعاية والاحتيال لا أكثر…
والمثير للأسف أنّ عددًا من وسائل الإعلام التونسيّة قد حاورت من باب الإثارة عددا من التونسيّين الذين ادّعوا أنّهم مسؤولون بهذا الكيان المفرغ من أيّ مضمون حقيقي. وروّجت لما مفاده أنّ الكثير من التونسيّين قد قدّموا مطالب للحصول على جنسية “مملكة أطلانتس”. والحقيقة أنّه لا يمكن نفي حقيقة تقديم تلك المطالب لأنّ لا شيء ينفي أنّ هذه البلاد مثل غيرها تغصّ بآلاف الحمقى والسُّذّج وكذلك بالمتمسّكين بأيّة قشّة قد تُنجيهم من الواقع المرير الذي يُكابدونه، ولو تطلّب الأمر منهم كيل شتّى الشتائم المقذعة لكلّ من واجههم بحقيقتهم ودعاهم إلى التمسّك بالرصانة والعقلانيّة والابتعاد عن الأوهام والشعوذة وسيل التفاهات السائدة…
تهافت وتنصّل
يرصد أيّ عاقل إذن عمليّة احتيال واضحة في أعمال هذه الجماعة، حتّى أنّها لا تتردّد في توشيح بعض منشوراتها بالشعار الرسمي لمنظمة الأمم المتحدة التي هي في نهاية المطاف منظمة مكوّنة من دول ذات سيادة كاملة وحكومات معترف بها دوليّا. ويدرك مؤسّسها الذي جعل نفسه ملكًا، وهو من تركيا )هارون إيدن) أنّه من السهل استقطاب أشخاص نكرات هاجسهم الاعتراف بذواتهم المنكسرة. فهذا رئيس وزراء من الأردن )محمد العبادي) وذاك وزير الصحة من اليمن وآخرون من هذا البلد العربي وذاك… والحقيقة أنّه ليس غريبًا أن يُركّز قائد الجوقة التركي في اختياراته على إسناد حقائبه الوزاريّة الموهومة إلى أشخاص كلّهم تقريبا من دول عربيّة…
في هذا الإطار جاء تداول اسم سوسن مبروك نائبة رئيس مجلس النواب الجديد التي أسندت إليها حقيبة “وزيرة العمل والشؤون الاجتماعيّة” في هذا الكيان قبل حذف هذا المسمّى فور إثارة جدل كبير بشأن ذلك في تونس. ثمّ نشرت صفحات هذا الكيان “بيانا توضيحيّا” يحمل توقيع المدعو “محمد سعيد طوغلي” الناطق الرسمي باسم حكومة مملكة “أرض الحكمة”، يؤكّد فيه أنّ علاقة “حكومته” بالسيدة سوسن مبروك “هي علاقة بالأصل مع مكتبها الاستشاري القانوني، حيث قدّمت لنا جملة من الاستراتيجيات والدراسات لوزارة العمل وبعض الوزارات. ونؤكّد على أنّه ليس لها أيّ علاقة بالمملكة وليس لها صفة رسميّة”.
في المقابل، بدت سوسن مبروك مرتبكة في تدخّلاتها ببعض الإذاعات، جرّاء هول ما أثاره الحزب الدستوري الحرّ حولها حتّى قبل أن تتسلّم مهامها أصلا بالمجلس النيابي الجديد. فقد باتت موضع تساؤل وشكوك حول شبهة تورّطها في تنفيذ أجندات أجنبيّة تسعى إلى اختراق المؤسّسة التشريعيّة التونسيّة. والحال أنّها تشغل منصب نائبة رئيس برلمان صاغه رئيس الجمهوريّة بكامل تفاصيله انطلاقا من تخوين نوابٍ من البرلمان السابق وبناء على سرديّة السيادة الوطنيّة. النائبة سوسن مبروك ذكرت أنّ جلّ ما قامت به هو تقديم ورقة عمل خلال فترة انتشار فيروس كورونا عبر تطبيقة “زووم” بصفتها مستشارة قانونيّة استأنست تلك المنظمة أو المملكة برأيها ونشرته في صفحاتها. كما قالت “أنا غير وصيّة أو مسؤولة عن استعمال اسمي في صفحات ما… وهذه الهجمة وكلّ ما يصير حاليا بهذا الشأن يهدف إلى تعطيل عملي وجعلي أقوم بتبرير مواقفي”…
الإشكال المطروح يكمن في حقيقة عدم معرفة سوسن مبروك بتلك الصفة المسندة إليها قبل إثارة الجدل بشأنها اليوم. والأرجح أنّ رغبتها في البروز والتهافت على التعريف بـ “بطولاتها” و”مآثرها” في مجال القانون قد أسقطتها في هذا المطبّ. وهو ما يعني أنّها محدودة الخبرة ويعوزها ما يتطلّبه مجال عملها من رصانة وتريّث وتواضع. والحال أنّها باتت تشغل منصبًا لا يسمح لها بارتكاب مثل تلك الأخطاء الطفوليّة الفادحة…
في المقابل، لا خلاف حول الخلفيات التي دفعت الحزب الحرّ الدستوري إلى إثارة الشكوك حول “وطنيّة” نائبة رئيس البرلمان سوسن مبروك ووصفها في بيان الحزب بأنّها “عضوة في أخطبوط متعدّد الجنسيات من الهيئات والمنظمات الأجنبيّة”، ممّا “يمثّل خطرا جسيمًا على الأمن القومي”. فمن مصلحة الدستوري الحرّ أن يُثير الشكوك حول كلّ ما يتّصل بالسلطة ومؤسّساتها، باعتبار أنّ حزب عبير موسي يُمثّل تقريبًا القوّة المعارضة الأكبر في البلاد، بعد أن أصاب الوهن والارتباك حركة النهضة التي يصعب أن تنهض مجدّدا في ظل استمرار راشد الغنوشي على رأسها.
من حقّ الحزب الدستوري طبعًا أن يصف البرلمان الجديد بالفاقد للشرعيّة والمشروعيّة، مثلما تردّد معظم أطياف المعارضة، نظرا إلى أنّ أقليّة الأقليّة من التونسيّين كانت شاركت في الانتخابات التشريعيّة الأخيرة. ومن حقّه كذلك أن يعتبره مجرّد ديكور لنظام سياسي انفرد الرئيس قيس سعيّد بصياغة تفاصيله من ألفه إلى يائه. يمكن للدستوري الحرّ أن يقول أكثر من ذلك طبعًا، لكن من العبث أيضا أن يطالب رئيسي الجمهوريّة والبرلمان باتّخاذ الإجراءات القانونيّة اللازمة وبتحمّل مسؤوليّاتهما ذات الصلة، وفي الآن ذاته يترّفع حتى عن ذكر صفتيهما الرسميّتين.
صحيح أنّ تصيّد أخطاء المنافسين بات من ضمن عمل الأحزاب في هذا العصر المبني على التشهير بالخصوم السياسيّين، غير أنّ ذلك لا يعني أيضا السقوط في التشويه المجاني للآخر، تحت شماعة الدفاع عن السيادة الوطنيّة التي أخذت تتغنى بها السلطة والمعارضة من دون أدنى مضمون... والأكثر من ذلك أنّ الحزب الحرّ الدستوري كان قد وشّح بيانه بصورة مفبركة تُظهر سوسن مبروك وبجانبها علم تلك “المملكة” وخلفها صورة ذلك الملك المزعوم ورئيس حكومته. وهي صورة يمكن لشخص مبتدئ في تقنيات “فوتوشوب” أن يكتشف زيفها. ولا ريب في أنّ ذلك يُسيء للحزب الحرّ الدستوري ولرئيسته عبير موسي لأنّ الأمر يتعلّق بعمليّة تضليل وتزييف لا يرقى إليها الشكّ.
منذ سنوات قليلة كتب المفكّر والروائي الإيطالي الراحل إمبرتو إيكو (1932-2016) ما يلي: “منحت شبكات التواصل الاجتماعي حقّ الكلام لفيالق من الحمقى، ممّن كانوا يتكلّمون فقط في الحانات بعد تناول كأسٍ من النبيذ، دون أن يتسبّبوا بأيّ ضررٍ للمجتمع، إذ كان يتمّ إسكاتهم فورًا. أمّا الآن فلهم الحقّ بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل، إنّه غزو البلهاء”. الأسوأ في تونس اليوم أنّ أبرز الفاعلين السياسيّين في البلاد، سواء في السلطة أو المعارضة، قد باتوا جزءًا من ماكينة ترويج الحمق والتفاهة والمهاترات المبتذلة…
*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 21 مارس 2023