الشارع المغاربي : من تابع مداولات مجلس نوّاب الشعب، خلال الأيّام الأخيرة، حول مسألة تمديد فترة عمل هيئة الحقيقة والكرامة يُلاحظ مدى حدّة الهذيان والتكالب والتراشق بالتهم الشنيعة بين مناصري هذا الشقّ وذاك، بصرف النظر عن التوجّهات والأجندات السياسيّة لكلّ منهما. وما بدا أكثر وضوحًا أنّ رئيسة الهيئة سهام بن سدرين قد باتت بمثابة “معول” لتفتيت وحدة التونسيين وتقسيمهم، لا فقط في البرلمان وإنّما في المشهد التونسي بمجمل مكوّناته، مؤسّساتٍ وأحزابًا وإعلامًا وميديا اجتماعيّة وأفرادًا… مشهد له خلفياته ولم يأت طبعًا من فراغ، لكنّه يؤذن بمزيد من الخراب والانقسام.
كشف العديد من نوّاب الشعب، هذه الأيام، عن مخالبهم الحادّة للفتك بما تبقّى من مقوّمات القبول بالاختلاف الكفيل بالحفاظ على ديمومة العيش المشترك بين التونسيين. محاكمات مباشرة تؤجّج الأحقاد والكراهيّة واتّهامات بالخيانة العظمى وتهديدات بـ «القصف الانتحاري» وإسهال منقطع النظير في تلفيق الجرائم الفظيعة لهذه الشخصيّة أو تلك دون أدنى أدلّة…
يهدف كلّ هذا التشنّج في الظاهر إلى دفاع الشقّين أو الطائفتين عن العدالة الانتقاليّة أو تصويب مسارها، لكنّه أبعد ما يكون عن ذلك، بل ويُخفي محاولات منهجيّة لـ«تثوير» التونسيّين قبيل الاستحقاقات الانتخابيّة لشهر ماي المقبل وحتى لعام 2019. معركة كسر عظام يخوضها ممثلو حركة النهضة من أجل الحفاظ على مصالح الجماعة التي عمّدتها لهم رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة. تلتقي معهم مشتقّات حزب المؤتمر من أجل الجمهورية وشظاياه الحزبيّة المختلفة التي تحاول بشكل محموم استعادة إمكانيات الوصول مجدّدا إلى الحكم بعد أن همّشها حزب راشد الغنوشي. وفي المقابل يتأهّب منتسبو حركة نداء تونس لاستبعاد سهام بن سدرين رأسًا، بالنظر إلى استهدافها المباشر لمرجعيّاته ومقوّماته وقياداته ومصالحه الحيويّة.
أمّا رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة فقد استطاب لها اللعب على كلّ هذه التناقضات، دون أدنى اكتراث بتحوّلها إلى عنوانٍ فارقٍ للتقسيم والتفتيت وتقطيع الأوصال.
تضخيم المغالطات
تُدرك بن سدرين أكثر من غيرها أنّ لا حلّ أمامها لاستدامة مصالحها الشخصيّة واستكمال مخطّطاتها إلاّ بالنفخ في سعير الشعبوية الثوريّة وتغذية الأحقاد، من خلال ما دأبت عليه من نهج انتقائي في جلسات الاستماع لضحايا الاستبداد والاضطهاد، وطرح ملفّات الماضي وإعادة محاكمة تاريخ دولة الاستقلال بمعايير الحاضر المسقطة وتغذية الأحقاد الدفينة والهواجس الانتقاميّة. ومن ثمّة نجحت رئيسة الهيئة في مسعاها «الماكيافلّي» إلى حين، فجمعت المتنابذين من أبناء الغنوشي والمرزوقي لتحصيل فوائد وغنائم سياسيّة وعينيّة مشتركة تحت شعار الدفاع عن مسار العدالة الانتقاليّة. وبذلك أضحى هذا المسار متمثّلا في شخصها لِما أبانته من تجنّد في حفظ مصالح من عيّنها. فـ«العدالة الانتقاليّة هي بن سدرين، وبن سدرين هي العدالة الانتقاليّة»، مثلما ردّد أحد جنرالات حزب المرزوقي المستبسلين في إعادة إنتاج خطاب بثّ الأحقاد والكراهيّة والإقصاء الذي خيّم على فترة حكم الترويكا، بعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في أكتوبر 2011.
الجدير بالملاحظة إذن أنّ ما يُروّج من حيثيات وقراءات من هذا الشقّ أو ذاك بشأن مشروعيّة عقد جلسة عامّة للبرلمان للتصويت على قرار تمديد عمل هيئة الحقيقة والكرامة أو انتهاك ذلك للدستور وقانون العدالة الانتقاليّة هو من قبيل المغالطات الهادفة إلى التغطية عن الخلفيّات الحقيقيّة لهذا الصراع المعلن. فمن ناحية أقرّ عدد من القضاة والخبراء المعروفين بنزاهتهم، على غرار القاضي أحمد الصواب، بأنّ الفصل الـ18 من قانون العدالة الانتقاليّة يحتمل أكثر من قراءة على الأقلّ، نظرا إلى سببين أساسيّين وهما أوّلا: ضبابية الفصل المذكور وقابليته للتأويل، وثانيا: أنّ الهيئة باعتبارها «سلطة فرعيّة» لا يُمكنها أن تفرض قرارها على البرلمان بوصفه «سلطة أصلية» هي التي تُقوّم أعمال الهيئة وتنظر في ميزانيتها الماليّة.
وما لا يخفى أنّ قانون العدالة الانتقاليّة كان قد سُنّ في ظلّ سيطرة حكم «الترويكا» بقيادة حركة النهضة على سلطة القرار في المجلس الوطني التأسيسي. ولذلك أثار القانون منذ البدء جدلا كبيرًا، باعتبار أنّه فُصّل على مقاس من حاكه. فقد نصّ على تكليف هيئة الحقيقة والكرامة بالاشتغال على فترة تنطلق من عام 1955، مُستبقًا بذلك الاستقلال التّام للبلاد في عام 1956 واعتماد النظام الجمهوري في عام 1957 وإنشاء المجلس القومي التأسيسي وسنّ دستور في عام 1959، ثمّ استكمال بناء مؤسّسات الدولة الناشئة خلال السنوات اللاحقة. ويبدو أنّه لو لم يكن مُحرجًا سياسيّا ومنطقيّا لَفُرض أن تعود الهيئة في عملها حتّى إلى عام 1934 زمن صعود الزعيم الحبيب بورقيبة واستبعاد عبد العزيز الثعالبي!، بهدف محاكمة تاريخ قديم بالآليات والمعايير الراهنة للعدالة الانتقالية المعتمدة في المنظومة الكونيّة الحديثة لحقوق الإنسان.
والواضح أنّ حركة النهضة كانت في حدّ ذاتها تعتقد زمن سنّ قانون العدالة الانتقاليّة أنّ أربعة أعوام كافية جدّا لتحقيق ما يُراد من هيئة الحقيقة والكرامة، لاسيما أنّ تجارب كبرى أخرى في العدالة الانتقالية مثل جمهوريّة جنوب إفريقيا بعد إسقاط نظام التمييز العنصري لم تمتدّ فترة عمل هيئتها ذات الصلة أكثر من عام ونصف العام.
وممّا يُلاحظ أيضا أنّ الفصل الـ18 من قانون العدالة الانتقاليّة الخاص بمسألة تمديد عمل هيئة الحقيقة والكرامة يبدو فصلا مواربا وفضفاضا. فقد نصّ على قيام الهيئة بـ «رفع قرار معلّل للمجلس المكلّف بالتشريع» من أجل التمديد في عملها بعام واحد، لكنّه لم يُحدّد بما يقتضيه النصّ من وضوح إنْ كان البرلمان له حقّ رفض التمديد أو أنّ عليه المضيّ في التمديد بشكل آليّ، بصرف النظر عن طبيعة تقويمه لعمل الهيئة. وهنا تكمن المغالطة الكبرى التي روّجت لها سهام بن سدرين وطائفتها المتضخّمة أكثر من حجمها هذه الأيّام.
طائفة بن سدرين!
من الأهميّة الإشارة أيضا إلى أنّ مسار العدالة الانتقالية لا ينتهي بانتهاء عمل هيئة الحقيقة والكرامة. فالقانون ذو الصلة يُقرّ أنّ على الهيئة في اختتام أعمالها أن تُعدّ تقريرا شاملا متضمّنًا توصياتها التي على الحكومة ومؤسّسات الدولة المعنيّة أن تطبّقها. وليس هناك أي شكّ في أنّ من مهام مجلس نوّاب الشعب مراقبة مدى الالتزام بتنفيذ التوصيات والقرارات ذات العلاقة، ولكنّ هذا الأمر يُراد تعويمه وتهميشه، وكأنّ بن سدرين هي المكلّفة دون غيرها بإعادة الحقوق إلى أصحابها في حال تمديد أعمالها بعام أو ستّة أشهر كما زعمت.
ومع ذلك لا يخفى أيضا أنّ القضيّة برُمّتها يُخيّم عليها كمّ هائل من الضبابيّة، باعتبار عدم إيضاح البديل للهيئة المنتهية مهامها في شهر ماي المقبل، مقابل ترويج بن سدرين لضياع كلّ الحقوق في حال اضطرّت للرحيل. ويبدو أنّ ذلك قد أسهم في حالة الارتباك التي استبدّت بحزب نداء تونس في إدارة هذا الملفّ، وربّما لذلك أعلن عن اعتزامه عرض مبادرة تشريعيّة جديدة لتغطية حالة الفراغ، ثمّ لوّح باستعداده للتصويت لصالح التمديد في عمل هيئة الحقيقة والكرامة في انسحبت سهام بن سدرين.
والإشكال الماثل هنا أنّ بن سدرين وطائفتها لا تستهدف فقط حركة نداء تونس وقياداتها، وإنّما جزءا لا يتجزّأ من عموم التونسيين. فقد عملت على ترسيخ تاريخ زائف قسّم التونسيين إلى شطرين، مُحوّلة مسار العدالة الانتقالية إلى مسارات من الأعمال الانتقائية والضغائن الانتقاميّة وبثّ الأحقاد في كلّ الاتّجاهات المخالفة لنسقها وأجنداتها المعلنة والخفيّة، والبون شاسع بين الأمرين.
ومن اليسير ملاحظة كيف انتفضت «الطائفة» المستبسلة في الدفاع عن بن سدرين في مجلس نوّاب الشعب ومنابر الإعلام والميديا الاجتماعيّة، مُوغلة في تشويه كلّ من أقدم على انتقاد ممارسات رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة، بكلّ الوسائل حتّى البذيئة منها. فلم تتردّد تلك الطائفة في رمي كلّ صوتٍ مخالفٍ وغير مصطفّ وراءها بالخيانة والفساد والتزلّف لنظام الحكم والانقلاب على استحقاقات الثورة وانعدام «الرجولة» وحتّى الارتواء بدماء الشهداء وسائر تلك الصفات المشينة…
في المقابل، فإنّ هذه الطائفة كمّمت أفواهها إزاء كلّ مخالفات بن سدرين السابقة والراهنة. فقد امتنعت سابقا عن إبداء أيّ رأي نقدي لممارساتها حين أطردت صحفيي إذاعة «كلمة» وهضمت حقوقهم رغم اعتصاماتهم، وفوّتت في تلك الإذاعة بشكل مثير للغموض. كما أغمضت الطائفة ذاتها أعينها عن نشاط هيئة الحقيقة والكرامة في ظلّ عدم توفّرها على النصاب القانوني، بعد أن أطردت عددا من أعضاء مجلس الهيئة. والأكثر من ذلك فإنّ جماعة بن سدرين لا تُبالي إطلاقا بعلوية القانون الذي تُروّجُ له اليوم، ولا أدلّ على ذلك من أنّها لم تكترث بغطرسة بن سدرين في رفض القرارات القضائيّة للمحكمة الإداريّة. فداست بشكل معلن كلّ ما تروّج له طائفتها من قيم ومبادئ، متحدّية الحدّ الأدنى من احترام مقوّمات دولة القانون.
ومن ثمّة، يبدو من الواضح جدّا أنّه لا همّ لطائفة بن سدرين إلاّ خدمة أجندةٍ بعينها، مُستخدمة كلّ وسائل التشهير والتخوين، ومُعتبرة نفسها مرجعا لا يُنازعه برلمان أو قانون أو دستور. وهي بذلك لا تبدو مختلفة إطلاقا عن الممارسات الاستبداديّة لحزب «التجمّع» المنحلّ وأسلافه الناشطين في نداء تونس ومشتقاته اليوم أو جماعة «التوافق المغشوش» من مُدعيي حماية المقدّسات والدين. وعليه فإنّه لا يُمكن لرأس فتنة أوغلَ في تقسيم التونسيين إلى طوائفَ ونحل بسبب ثأر تاريخي مزعوم، وداس بقدميه حُرمة القانون والقيم أن يُؤتمن على مسار العدالة الانتقاليّة أو غيرها من الاستحقاقات أو القيم…