الشارع المغاربي – اِنتَبِه‭...‬إقليم‭ ‬مُرقَّم (الجزء1) بقلم: صالح مصباح

اِنتَبِه‭…‬إقليم‭ ‬مُرقَّم (الجزء1) بقلم: صالح مصباح

قسم الأخبار

28 سبتمبر، 2023

الشارع المغاربي: بالأمر‭ ‬عدد‭ ‬588‭ ‬المؤرّخ‭ ‬في‭ ‬21‭ ‬سبتمبر‭ ‬2023‭ ‬أصدر‭ ‬رأس‭ ‬الحكم‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬الدعوة‭ ‬إلى‭ ‬انتخابات‭ ‬أعضاء‭ “‬المجلس‭ ‬الوطني‭ ‬للجهات‭ ‬والأقاليم‭”. ‬واتّصل‭ ‬بالدعوة‭ ‬تقسيمٌ‭ ‬للبلاد‭ ‬التونسية‭ ‬إلى‭ ‬أقاليم‭ ‬يجري‭ ‬من‭ ‬مجلسها‭ ‬الصعودُ‭ ‬إلى‭ ‬مجلس‭ ‬الجهات‭ ‬والأقاليم،‭ ‬وهذه‭ ‬يجري‭ ‬إليها‭ ‬الصعودُ‭ ‬من‭ ‬مجالس‭ ‬في‭  ‬مستوى‭ ‬الولايات،‭ ‬وإلى‭ ‬هذه‭ ‬يجري‭ ‬الصعودُ‭ ‬من‭ ‬مجالس‭ ‬في‭ ‬مستوى‭ ‬المعتمديات‭ ‬التي‭ ‬يكوّنها‭ ‬أفراد‭ ‬منتخبون‭ ‬في‭ ‬مستوى‭ ‬العمادات‭. ‬وهكذا‭ ‬تتراكب‭ ‬صُعُدا‭ ‬طوابقُ‭”‬البناء‭ ‬الشاهق‭”.‬

1/‬مبدأ‭ ‬التقسيم‭: ‬

يبدو‭ ‬تقسيم‭ ‬البلاد‭ ‬التونسية‭ ‬إلى‭ ‬أقاليم‭ ‬خمسة‭ ‬الصادر‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬المذكور‭ ‬تقسيما‭ ‬مفتعلا‭. ‬ولعل‭ ‬الوجاهة‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬فيه‭ ‬هي‭ ‬كونه‭ ‬ترجمانا‭ ‬لتصوّر‭ ‬لدى‭ ‬صاحبه،‭ ‬وقد‭ ‬أسقطه‭ ‬على‭ ‬تونس‭ ‬من‭ ‬عَلٍ‭ ‬سياسي‭ ‬مُتداعٍ‭ ‬غير‭ ‬شاهق‭. ‬فليس‭ ‬أرض‭ ‬تونس‭ ‬في‭ ‬حجم‭ ‬روسيا‭ ‬ولا‭ ‬تعداد‭ ‬شعبها‭ ‬في‭ ‬حجم‭ ‬الصين‭ ‬أو‭ ‬الهند‭. ‬ولم‭ ‬يحصل‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬التي‭ ‬يربط‭ ‬بين‭ ‬طرفيها‭ ‬نحو‭ ‬700‭ ‬كلم‭ ‬أن‭ ‬تعطّلت‭ ‬فيها‭ ‬لغةُ‭ ‬الكلام‭ ‬الرسمي‭ ‬بين‭ ‬الجهات‭ ‬والمركز‭ ‬تعطلا‭ ‬اقتضى‭ ‬كيانات‭ ‬إقليمية‭ ‬وسيطة‭. ‬

ثم‭ ‬إن‭ ‬تقسيم‭ ‬البلدان‭ ‬الأخرى‭ ‬إلى‭ ‬أقاليم‭ ‬قد‭ ‬اقتضته‭ ‬فيها‭ ‬ضروراتٌ‭ ‬وإكراهات‭.‬و‭ ‬إن‭ ‬هذه‭ ‬الضرورات‭ ‬والإكراهات‭ ‬هي‭ ‬غالبا‭ ‬سابقة‭ ‬اقيام‭ ‬الدول‭ ‬فيها‭ ‬أو‭ ‬مرافقة‭ ‬لمخاض‭ ‬قوامها‭ ‬العسير‭. ‬وقد‭ ‬أصاب‭ ‬صديقنا‭ ‬السياسي‭ ‬حاتم‭ ‬مليكي‭ ‬بالتذكير‭ ‬بهذا‭ ‬المعطى‭. ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬تقسيم‭ ‬البلدان‭ ‬إلى‭ ‬أقاليم‭ ‬غالبا‭ ‬ما‭ ‬يقتضيه‭ ‬فعلا‭ ‬وجود‭ ‬كيانات‭ ‬متمايزة‭ ‬سابقة‭ ‬لإنشاء‭ ‬الدولة‭. ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬هذا‭ ‬التمايز‭ ‬بين‭ ‬الكيانات‭ ‬التي‭ ‬داخل‭ ‬الدولة‭ ‬تمايزا‭ ‬عرقيا‭ ‬أو‭ ‬ثقافيا‭ ‬أو‭ ‬لغويا‭ ‬أو‭ ‬حصيلة‭ ‬حروب‭ ‬ومغالبة‭. ‬وعلى‭ ‬ذلك‭ ‬يجري‭ ‬التقسيم‭ ‬إلى‭ ‬أقاليم‭ ‬تحظى‭ ‬بقدر‭ ‬من‭ ‬التدبير‭ ‬الذاتي‭. ‬والهدف‭ ‬هو‭ ‬الملاءمة‭ ‬بين‭ ‬ذلك‭ ‬التمايز‭ ‬الذي‭ ‬تتمسك‭ ‬به‭ ‬الأقاليم‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬ووحدة‭ ‬الدولة‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬ثانية‭. ‬كما‭ ‬قد‭ ‬يبعث‭ ‬على‭ ‬التقسيم‭ ‬الإقليمي‭ ‬اتساعُ‭ ‬مساحات‭ ‬البلدان‭ ‬وكثافتها‭ ‬السكانية،‭ ‬ما‭ ‬يمنع‭ ‬السلطة‭ ‬المركزية‭ ‬من‭ ‬الإلمام‭ ‬الحَسَن‭ ‬السلس‭ ‬بمشاغل‭ ‬المواطنين‭ ‬أنّى‭ ‬كانوا‭. ‬ومثلما‭ ‬ينطلق‭ ‬هذا‭ ‬الإقتضاء‭ ‬وذاك‭ ‬على‭ ‬التقسيم‭ ‬الإقليمي،‭ ‬ينطلق‭ ‬على‭ ‬الأنظمة‭”‬الفدرالية‭” ‬و‭”‬الكونفدرالية‭”. ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬الحالات‭ ‬كلها،‭ ‬يكون‭ ‬للإقليم‭ ‬أو‭ ‬للكيان‭ ‬داخل‭ ‬الفدرالية‭ ‬أو‭ ‬الكونفدرالية‭ ‬سلطة‭ ‬تنفيذية‭ ‬وبرلمان‭ ‬وسائر‭ ‬الأجهزة‭ ‬والمؤسسات‭ ‬الأخرى‭. ‬فبخلاف‭ ‬تونس‭ ‬البناء‭ ‬الشاهق،‭ ‬لم‭ ‬تقسم‭ ‬دولة‭ ‬نفسها‭ ‬بعد‭ ‬طول‭ ‬تجانس‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬اقتضاء‭ ‬واضح‭ ‬أو‭ ‬هدف‭ ‬جلي‭ ‬يتعدى‭ ‬ما‭ ‬يعتمل‭ ‬في‭ ‬ذهن‭ ‬مَن‭ ‬له‭ ‬القرار‭.‬

2/اعتباطية‭ ‬معيار‭ ‬التقسيم

اتبع‭ ‬صاحب‭ ‬التقسيم‭ ‬خريطة‭ ‬تونس‭ ‬اتباعا‭ ‬عموديا‭ ‬يجلوه‭ ‬ترقيم‭ ‬الأقاليم‭ ‬من‭ ‬واحد‭ ‬إلى‭ ‬خمسة‭. ‬فالإقليم‭ ‬رقم‭ ‬1‭ ‬هو‭ ‬بنزرت‭ ‬وباجة‭ ‬وجندوبة‭ ‬والكاف‭. ‬ورقم‭ ‬2‭ ‬هو‭ ‬ولايات‭ ‬تونس‭ ‬الأربع‭ ‬ونابل‭ ‬وزغوان‭. ‬ورقم‭ ‬3‭ ‬هو‭ ‬سوسة‭ ‬والمهدية‭ ‬والقيروان‭ ‬وسليانة‭ ‬والقصرين‭. ‬ورقم‭ ‬4‭ ‬هو‭ ‬صفاقس‭ ‬وسيدي‭ ‬بوزيد‭ ‬وقفصة‭ ‬وتوزر‭.‬و‭ ‬رقم‭ ‬5‭ ‬هو‭ ‬قابس‭ ‬ومدنين‭ ‬وقبلي‭ ‬وتطاوين‭.‬

وهذا‭ ‬التقسيم‭ ‬المرقّم،‭ ‬وفق‭ ‬وضع‭ ‬خريطة‭ ‬تونس‭ ‬العمودي،‭ ‬قد‭ ‬خالف‭ ‬به‭ ‬صاحبه‭”‬البناء‭ ‬القاعدي‭” ‬المُحبّب‭ ‬إلي‭ ‬عقله‭ ‬السياسي‭.‬فمنطق‭ ‬البناء‭ ‬القاعدي‭ ‬يقتضي‭ ‬الإبتداء‭ ‬من‭ ‬قاعدة‭ ‬الخريطة‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬رأسها،‭ ‬فيكونَ‭ ‬الإقليمُ‭ ‬رقم‭ ‬5،‭ ‬وهو‭ ‬قاعدة‭ ‬الخريطة،‭ ‬إقليما‭ ‬رقم‭ ‬1،‭ ‬والإقليم‭ ‬رقمُ‭ ‬4‭ ‬رقمَ‭ ‬2‭ ‬وهكذا‭.   ‬فقد‭ ‬سبق‭ ‬لرأس‭ ‬الحكم‭ ‬أن‭ ‬بنى‭ “‬الدولة‭”‬على‭”‬السلطة‭”‬على‭ ‬هيئة‭ ‬قدمَين‭ ‬تَعلُوان‭ ‬رأسا‭. ‬وكان‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يحافظ،‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬التقسيم‭ ‬والترقيم‭ ‬الإقليميَين،‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬المذهب‭.‬

ولا‭ ‬يلوح‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬التقسيم‭ ‬الخماسي‭ ‬إلا‭ ‬معيار‭ ‬واحد،‭ ‬وهو‭ “‬توجيه‭” ‬الأقاليم‭ ‬إلى‭ ‬البحر‭. ‬فكأن‭ ‬المقصد‭ ‬هو‭ ‬الحث‭ ‬على‭ ‬السباحة‭ ‬وركوب‭ ‬الخيل‭ ‬كما‭ ‬جاء‭ ‬في‭” ‬الحديث‭”. ‬وكأنّ‭ ‬البحر‭ ‬ممتنع‭ ‬على‭ ‬الولايات‭ ‬قبل‭ ‬هذا‭ ‬التقسيم،‭ ‬وكأنها‭ ‬ستتحرك‭ ‬إليه‭”‬جيولوجيا‭” ‬بعده‭. ‬

إنّ‭ ‬هذا‭ “‬التوجيه‭”‬،‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النحو‭ ‬الإنتخابوي‭ ‬المُمَوّه‭ “‬بالتنمية‭ ‬اللغوية‭”‬،‭ ‬هو‭ ‬توجيه‭ ‬اعتباطيّ‭ ‬ويستبطن‭ ‬بسذاجة‭ ‬غالبة‭ ‬التدارك‭ ‬على‭ ‬التفاوت‭ ‬بين‭ ‬الجهات‭. ‬فليس‭ ‬لهذا‭ ‬للتفاوت‭ ‬أن‭ ‬يزول‭ ‬بهذا‭ ‬التقسيم‭ ‬اليوم‭ ‬أو‭ ‬غدا‭. ‬لا‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬عَمَّاق‭ ‬له‭ ‬جلّاب‭. ‬فعدد‭ ‬سكان‭ ‬الإقليم‭ ‬الثاني،‭ ‬الذي‭ ‬يضم‭ ‬ولايات‭ ‬تونس‭ ‬الكبرى‭ ‬ونابل‭ ‬وزغوان،‭ ‬يناهز‭ ‬الخمسة‭ ‬ملايين،‭ ‬أي‭ ‬نجو‭ ‬40‭% ‬من‭ ‬سكان‭ ‬البلاد،‭ ‬ويبلغ‭ ‬نحو‭ ‬50‭% ‬منه‭ ‬نهارا‭. ‬ومساحة‭ ‬هذا‭ ‬الإقليم‭ ‬نحو‭ ‬30‭% ‬من‭ ‬مساحة‭ ‬البلاد‭. ‬ويقابله‭ ‬الإقليم‭ ‬الخامس‭ ‬الذي‭ ‬يضم‭ ‬قابس‭ ‬وقبلى‭ ‬ومدنين‭ ‬وتطاوين‭ ‬بعدد‭ ‬سكان‭ ‬دون‭ ‬المليون‭ ‬وبمساحة‭ ‬تناهز‭ ‬40‭ % ‬من‭ ‬مساحة‭ ‬تونس‭. ‬

فهذا‭ ‬التفاوت‭ ‬الذي‭ ‬له‭ ‬أشباه‭ ‬بين‭ ‬الأقاليم‭ ‬الأخرى‭ ‬إنما‭ ‬يظهر‭ ‬اعتباطية‭ ‬التقسيم‭ ‬وخلوّه‭ ‬من‭ ‬آفاق‭ ‬الحدّ‭ ‬من‭ ‬التفاوت‭ ‬التنموي‭ ‬بين‭ ‬الجهات،‭ ‬سواء‭ ‬بالأسباب‭ ‬المتحركة‭ ‬التي‭ ‬منها‭ ‬التعداد‭ ‬السكاني‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬محركات‭ ‬التنمية،‭ ‬أو‭ ‬بالأسباب‭ ‬المهدورة‭ ‬التي‭ ‬منها‭ ‬مساحة‭ ‬الإقليم‭ ‬رقم‭ ‬5‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬مساحة‭ ‬غيره‭ ‬غيره‭ . ‬وليس‭ ‬اتساع‭ ‬مساحة‭ ‬الإقليم‭ ‬رقم‭ ‬5‭  ‬باعثا‭ ‬على‭ ‬تنمية‭ ‬ممكنة‭ ‬بإعداد‭ ‬سكانه‭ ‬هذا‭. ‬وإذا‭ ‬قال‭ ‬قائل‭ ‬ما‭ ‬المانع‭ ‬من‭ ‬انتقال‭ ‬الرصيد‭ ‬البشري‭ ‬الذي‭ ‬في‭ ‬الإقليم‭ ‬الثاني‭ ‬أو‭  ‬في‭ ‬غيره‭ ‬إلى‭ ‬الإقليم‭ ‬الخامس‭ ‬ذي‭ ‬الكثافة‭ ‬السكانية‭ ‬الضعيفة؟‭.‬قلنا‭ ‬لا‭ ‬مانع،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬الموجب،‭ ‬والحال‭ ‬تلك،‭ ‬لهذا‭ ‬التقسيم‭. ‬فمناطق‭ ‬تونس‭ ‬هي‭ ‬بلد‭ ‬التونسيين‭ ‬كافة،‭ ‬ولا‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬افتعال‭ ‬تقسيمها‭ ‬إلى‭ ‬أقاليم‭ ‬مرقّمة‭ ‬كأنها‭ ‬أحجار‭ “‬كيلومترية‭”.‬

إن‭ ‬الهاجس‭ ‬الإنتخابوي‭ ‬الكامن‭ ‬في‭ ‬مشروع‭ ‬فردي‭ ‬لَهَج‭ ‬به‭ ‬صاحبه‭ ‬لهجا‭ ‬قد‭ ‬أغفله‭ ‬عن‭ ‬التجارب‭ ‬الناجحة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشأن‭. ‬وإن‭ ‬التجربة‭ ‬الصينية‭ ‬التي‭ ‬سبق‭ ‬لنا‭ ‬عرضها‭ ‬في‭ ‬حوار‭ ‬تلفزي‭ ‬هي‭ ‬تجربة‭ ‬قد‭ ‬يجدر‭ ‬الإستئناس‭ ‬بها‭ ‬استئناسا‭ ‬متعاليا‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الشعوذة‭. ‬ذلك‭ ‬أنّ‭ ‬حكّام‭ ‬الصين‭ ‬قد‭ ‬انطلقوا‭ ‬منذ‭ ‬عقود‭ ‬مِن‭ ‬أنّ‭ ‬شرق‭ ‬بلادهم‭ ‬ناهض‭ ‬وغربها‭ ‬متخلف‭. ‬فنظروا‭ ‬في‭ ‬خريطة‭ ‬بلادهم‭ ‬شبه‭ ‬المستطيلة‭ ‬وفي‭ ‬جناح‭ ‬فيها‭ ‬شرقي،‭ ‬فأحكموا‭ ‬الوصل‭ ‬الثنائيّ‭ ‬بين‭ ‬كل‭ ‬منطقة‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬ومقابلتها‭ ‬التي‭ ‬في‭ ‬الغرب‭. ‬وجاء‭ ‬ذلك‭ ‬وِفق‭ ‬درس‭ ‬معمق‭ ‬لأسباب‭ ‬التكامل‭ ‬الثنائي‭ ‬الذي‭ ‬به‭ ‬تَقطُر‭ ‬الجهةُ‭ ‬النامية‭ ‬مقابلتَها‭ ‬غير‭ ‬النامية‭. ‬واستكملوا‭ ‬ذلك‭ ‬بخطوط‭ ‬سكك‭ ‬حديدية‭ ‬واصلة‭ ‬شاملة‭. ‬فهذا‭ ‬الهدف‭ ‬هو‭ ‬بعض‭ ‬ما‭ ‬دفع‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يصنع‭ ‬أسرع‭ ‬القطارات‭ ‬في‭ ‬العالم‭.‬

وثمة‭ ‬أنموذج‭ ‬ثان‭ ‬رائج‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬شتى،‭ ‬وهو‭ ‬التقسيم‭ ‬التكاملي‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬أقطاب‭ ‬إقتصادية‭ ‬تتألف‭ ‬من‭ ‬جهات‭ ‬تتشابه‭ ‬خصائصها‭ ‬وتتكامل‭ ‬نواقصها‭ ‬وأسباب‭ ‬القوة‭ ‬الكامنة‭ ‬فيها‭. ‬وبهذا‭ ‬التأليف‭ ‬يختصَّ‭ ‬بالغَلَبة‭ ‬كلّ‭ ‬قطب‭ ‬بقطاع‭ ‬تنمية‭ ‬مخصوص‭ ‬توجَّه‭ ‬إليه‭ ‬الخيارات‭ ‬السياسية‭ ‬توجيها‭ ‬ممكنا‭ ‬غيرَ‭ ‬مفتعل،‭ ‬كأن‭ ‬يكون‭ ‬الغالب‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬القطب‭ ‬الفلاحة‭ ‬وعلى‭ ‬ذاك‭ ‬الصناعات‭ ‬الكبرى‭ ‬وعلى‭ ‬ذلك‭ ‬الصناعة‭ ‬الجزئية‭ ‬وعلى‭ ‬رابع‭ ‬الخدمات‭ ‬وعلى‭ ‬خامس‭ ‬الصناعة‭ ‬الغذائية‭ ‬التحويلة‭ ‬وعلى‭ ‬سادس‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬إلخ‭… ‬فالإقتصاد‭ ‬يحكمه‭ ‬منطق‭ ‬داخلي‭ ‬كامن‭ ‬فيه‭. ‬فهو‭ ‬كالماء‭ ‬الذي‭ ‬يتبع‭ ‬في‭ ‬سيره‭ ‬المنحدرات‭ ‬إلى‭ ‬المصبّات؛‭ ‬الأقطاب‭. ‬هكذا‭ ‬استخلص‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬الإقتصاد‭ ‬العلامةُ‭ “‬برودال‭”. ‬وإنّ‭ ‬التدبير‭ ‬السياسي،‭ ‬وفق‭ ‬فكرة‭ ‬الأقطاب‭ ‬الإقتصادية‭ ‬مثلا،‭ ‬إنما‭ ‬بساير‭ ‬منطق‭ ‬الإقتصاد‭ ‬كما‭ ‬يساير‭ ‬منطق‭ ‬جريان‭ ‬الماء،‭ ‬وذلك‭ ‬بأن‭ ‬يوجّهه‭ ‬توجيها‭ ‬فطنا‭ ‬يراعي‭ ‬نزوعه‭ ‬إلى‭ ‬المصب؛‭ ‬القطب،‭  ‬فيتحكّمَ‭ ‬فيه‭ ‬بمسايرة‭ ‬منطقه‭ ‬لا‭ ‬بعكسه‭ ‬أو‭ ‬برسم‭ ‬مساره‭ ‬في‭ ‬الرائد‭ ‬الرسمي‭ ‬وبالتنمية‭ ‬اللغوية‭.‬

‭ /3‬استئناف‭  ‬المشروع‭ ‬الإخواني

تنبّهت‭ ‬السياسية‭ ‬عبير‭ ‬موسي‭ ‬إلى‭ ‬أنّ‭ ‬هذا‭ ‬التقسيم‭ ‬الذي‭ ‬يهدد‭ ‬تماسك‭ ‬الدولة‭ ‬والمجتمع‭ ‬هو‭ ‬استئناف‭ ‬للمشروع‭ ‬الإخواني‭. ‬وقد‭ ‬أوقع‭ ‬الحرصُ‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الإستئناف‭ ‬صاحبَ‭ ‬التقسيم‭ ‬في‭ ‬خطأ‭ ‬قانوني‭ ‬فادح‭. ‬فالسند‭ ‬القانوني‭ ‬لتقسيمه‭ ‬هو‭ ‬قانون‭ ‬2018‭ ‬المنظم‭ ‬الجماعات‭ ‬المحلية‭. ‬ويتصّ‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يصدر‭ ‬تقسيم‭ ‬البلاد‭ ‬إلى‭ ‬إقليم‭ ‬بقانون‭ ‬يصدّق‭ ‬عليه‭ ‬البرلمان‭. ‬لكن‭ ‬رأس‭ ‬الحكم‭ ‬أصدرها‭ ‬بأمر‭ ‬إصدارا‭ ‬لن‭ ‬يصمد‭ ‬أمام‭ ‬القضاء‭ ‬الإداري‭ ‬النزيه‭.‬

وإن‭ ‬تقسيم‭ ‬البلاد‭ ‬إلى‭ ‬أقاليم‭ ‬لم‭ ‬يبتدعه‭ ‬رأس‭ ‬الحكم‭ ‬الراهن‭. ‬فهو،‭ ‬من‭ ‬منظور‭ ‬آخر،‭ ‬إخواني‭ ‬الأصول‭ ‬من‭ ‬زاوتين‭ ‬اثنتين‭. ‬أما‭ ‬الزاوية‭ ‬الأولى‭ ‬فهي‭ ‬أنّ‭ ‬هذا‭ ‬التقسيم‭ ‬هو‭ ‬نسخة‭ ‬شبه‭ ‬مطابقة‭ ‬للتقسيم‭ ‬الذي‭ ‬وضعه‭ ‬على‭ ‬أيام‭ ‬الترويكا‭ ‬الإخوانية‭ ‬مركز‭ ‬الدراسات‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬الذي‭ ‬مرجع‭ ‬نظره‭ ‬الرئاسة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬ماسكها‭ ‬وقتئذ‭ ‬المرزوقي‭. ‬ومن‭ ‬شاء‭ ‬التثبت‭ ‬فعليه‭ ‬بالنظر‭ ‬في‭ ‬التّقسيمين،‭ ‬وهو‭ ‬متاح‭.‬

وأما‭ ‬الزاوية‭ ‬الثانية‭ ‬التي‭ ‬تظهر‭ ‬أن‭ ‬مهجة‭ ‬الحُكم‭ ‬الراهن‭ ‬هي‭ ‬مهجة‭ ‬الحُكم‭ ‬الإخواني،‭ ‬وإن‭ ‬ساءت‭ ‬الشراكة،‭ ‬فهي‭ ‬أن‭ ‬مجلة‭ ‬الجماعات‭ ‬المحلية‭ ‬قد‭ ‬صدرت‭ ‬وفق‭ ‬دستور‭ ‬2014‭ ‬الذي‭ ‬سنّ‭ ‬نظاما‭ ‬سياسيا‭ ‬برلمانيا‭. ‬فالروح‭ ‬التشريعية‭ ‬الناظمة‭ ‬لها‭ ‬هي‭ ‬الناظمة‭ ‬له‭.‬لا‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬بعض‭ ‬فصولها‭ ‬هي‭ ‬استنساخ‭ ‬لبعض‭ ‬فصوله‭. ‬والمراجعة‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬نقول‭ ‬متاحة‭ ‬بدورها‭. ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬تُخالِفُ،‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬التناقض‭ ‬الصارخ،‭ ‬الروحُ‭ ‬التشريعية‭ ‬الناظمة‭ ‬لتلك‭ ‬المجلة،‭ ‬المشتقةُ‭ ‬من‭ ‬برلمانية‭ ‬الدستور‭ ‬السابق،‭ ‬روحَ‭ ‬الدستور‭ ‬الراهن‭ ‬الرئاسوي‭ ‬أو‭ “‬الفرعوني‭” ‬بعبارة‭ ‬العميد‭ ‬الصادق‭ ‬بالعيد‭. ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬وجيها‭ ‬أو‭ ‬مستوجبا‭ ‬أن‭ ‬حلَّ‭ ‬المجالس‭ ‬المجالس‭ ‬البلدية‭ ‬يعقبه‭ ‬إلغاءُ‭ ‬مجلة‭ ‬الجماعات‭ ‬المحلية‭ ‬أو‭ ‬تعديلها‭ ‬وفق‭ ‬الدستور‭ ‬الراهن‭. ‬فلا‭ ‬معنى‭ ‬للإبقاء‭ ‬على‭ ‬قانون‭ ‬قد‭ ‬انتسخ‭ ‬كلُّ‭ ‬ما‭ ‬ترتب‭ ‬عليه‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬نشأ‭ ‬على‭ ‬مقتضاه‭.‬

لكن‭ ‬إبقاء‭ ‬رأس‭ ‬الحكم‭ ‬عليها‭ ‬إلى‭ ‬اليوم،‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬دستوره‭ ‬من‭ ‬تناقض‭ ‬صارخ،‭ ‬إنما‭ ‬لأنه‭ ‬قد‭ ‬بَيّتَ‭ ‬مسبقا‭ ‬أن‭ ‬يبنيَ‭ ‬على‭ ‬قانونها‭ “‬أمرَ‭” ‬التقسيم‭ ‬الإنتخابي‭ ‬عدد‭ ‬588‭. ‬وهو‭ ‬تبيِيتٌ‭ ‬بَعِيدُ‭ ‬الغَور‭ ‬والتدبير‭ ‬تمنّينا‭ ‬لو‭ ‬وجّهه‭ ‬صاحبه‭ ‬إلى‭ ‬خير‭ ‬البلاد‭ ‬الفعلي‭. ‬وبالإبقاء‭ ‬تلك‭ ‬المجلة‭ ‬إبقاءً‭ ‬مُحيّرا‭ ‬وقتئذ،‭ ‬وبتأجيل‭ ‬الإنتخابات‭ ‬البلدية‭ ‬إلى‭ ‬أجل‭ ‬غير‭ ‬مُسمّى،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬النفايات‭ ‬أضحت‭ ‬من‭ ‬أركان‭ ‬الشوارع‭ ‬والأنهج،‭ ‬أمكن‭ ‬لرأس‭ ‬الحكم،‭ ‬المشهود‭ ‬له‭ ‬بالنظافة‭ ‬وببراءة‭ ‬الأطفال،‭ ‬أن‭ ‬يستكمل‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يستكمله‭ ‬الإخوان‭. ‬فهو،‭ ‬وإياهم،‭ “‬في‭ ‬فلك‭ ‬واحد‭” ‬كما‭ ‬قال‭ ‬منذ‭ ‬بضعة‭ ‬أشهر‭ ‬أحدهم‭ ‬مِمَّن‭ ‬فهموا‭ ‬كما‭ ‬فَهم‭ ‬رأسُ‭ ‬الحكم‭ ‬دعوة‭ ‬بريطانيا؛‭ ‬حُضنِ‭ ‬الإخوان‭ ‬الأول‭ ‬والتاريخي،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭  “‬تجدد‭ ‬الحركات‭ ‬الإسلامية‭ ‬نفسها‭ ‬من‭ ‬الداخل‭”. ‬وهي‭ ‬دعوة‭ ‬تضمر‭ ‬أن‭” ‬القادة‭ ‬التاريخيين‭” ‬قد‭ ‬ولَى‭ ‬زمانهم‭ ‬وانتهى‭ ‬مفعول‭ ‬أوراقهم‭. ‬ومن‭ ‬عجيب‭ ‬الصدف‭ ‬أن‭ ‬اعتقال‭ ‬الغنوشي‭ ‬قد‭ ‬تمّ‭ ‬بَعد‭ ‬تلك‭ ‬الدعوة‭ ‬بأيام‭. ‬وإنّ‭ ‬بعض‭ ‬الظّنّ‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الربط‭ ‬إثم‭ ‬ورَجمٌ‭ ‬بالغيب‭. ‬غفر‭ ‬الله‭ ‬لنا.‭) ‬يتبع)‭ .‬

*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 26 سبتمبر 2023


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING